عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴿٤٠﴾    [يس   آية:٤٠]
{لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} أي لا يتيسر للشمس أن تدرك القمر وليس لها القدرة على ذلك؛ لأن لها فلكًا خاصًا لا تتعداه، كما أن للقمر فلكًا خاصًا به لا يتعداه. وقد ذهب بعضهم أن النص قد يوقع في لبس فيظن ظان أنه متناقض، ذلك أن قوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} معناه أن القمر سابق، وقوله: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} معناه أن النهار سابق فتكون الشمس سابقة فيكون ذلك تناقضًا. وقد حاول المفسرون تخريج النص وتفسيره بما يدفع التناقض المظنون (1). وقد أوضح ذلك ربنا بما يدفع هذا الظن بقوله: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فكل من الشمس والقمر له فلكه، فهما ليسا في سباق، فليس القمر أمام الشمس ولا الشمس وراءه. وهذان الجرمان نظيرًا شخصين أحدهما في أمريكا والآخر في العراق، وكل منهما يدور في دائرة لا يتعداها، وكل دائرة تخلف عن الأخرى سعة ووضعًا فليس أحدهما يدرك الآخر، ولا أحدهما سابقًا لصاحبه، وأن ما بين الشمس والقمر أبعد من هذا بكثير. هذا علاوة على أن هذا التعبير يعبر عن حقيقة علمية ثابتة، ذلك أنه في كل لحظة تشرق الشمس على مكان وتغرب من مكان، فالذي تشرق الشمس عليه يكون نهارًا والذي تغرب منه يكون ليلًا، فالليل أمامه نهار يأتي عليه في كل لحظة وخلفه نهار يأتي عليه، وكذلك النهار، فالليل ليس سابقًا للنهار لأن أمامه نهارًا. فقوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} قد يفهم أن الليل سابق النهار فصحح ربنا هذا الفهم قائلًا: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي ليس معنى هذا أن الليل سابق النهار. فتبارك الله العزيز العليم قائل هذا الكلام. وبهذا يسقط السؤال عن سر التعبير بالفعل في قوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} فقال: (تدرك)، وبالاسم في قوله: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فقال: (سابق) ولم يجعلها على نسق واحد، ذلك أن قوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} قد يفهم منه أن الليل سابق فقال: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فرد هذا التصور، وهو أعدل التعبيرات وأبلغها. وفي تقديم الشمس على الفعل وتقديم حرف النفي عليها بحث، فإن الأصل في نحو هذا أن يقال: (لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر) ولكنه عدل عن ذلك إلى ما قاله لأكثر من سبب: 1- منها أن (لا) إذا دخلت على اسم معرفة فإنه يردا بها نفي أكثر من أمر فتكرر وجوبًا، بخلاف ما إذا دخلت على فعل مضارع فإنها ليست كذلك. وههنا أراد أن ينفي أمرين فقدم الاسم المعرفة ليؤذن بأنه يريد نفي أكثر من مسألة فقال: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فأراد أن ينفي إدراك الشمس للقمر وسبق الليل النهار. وهذا نظير قوله تعالى: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {البقرة: 38}. فجاء بجملتين متعاطفتين كلتاهما اسمية فعطف جملة اسمية على اسمية وهما قوله: (الشمس ينبغي لها)، وقوله: (الليل سابق النهار) وتوافق الجملتين في نحو هذا أولى. وهو نظير قولنا: (لا محمد رجع ولا خالد مسافر) وهو أولى من قولك: (لا رجع محمد ولا خالد مسافر). 2- قد يفيد تقديم الاسم على الفعل في حيز النفي نفي الفعل عن المذكور وإثباته لغيره نحو: (ما أنا قلت هذا)، و(ما محمد فعل ذلك) أي لم أقل أنا هذا وإنما قاله غيري، ولم يفعله محمد وإنما فعله غيره. فعلى هذا المعنى يفيد التعبير نفي القدرة عن الشمس لإدراك القمر وإثباتها لغيرها، أي يستطيع ذلك غيرها، وهو الله العزيز الحكيم فينفي بذلك عنها القدرة والاختيار. جاء في (التفسير البيضاوي): "وإيلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد لها" (1). وجاء في (روح المعاني): "وجوز أن يكون ذلك (يعني تقديم حرف النفي على الشمس) لإفادة كونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها من حيث تقديم المسند إليه على الفعل وجعله بعد حرف النفي نحو: (ما أنا قلت هذا، وما زيد سعى في حاجتك) يفيد التخصيص؛ أي: ما أنا قلت هذا بل غيري، وما زيد سعى في حاجتك بل غيره، على ما حققه علماء البلاغة. والمقصود من نفي تسهل إدراك القمر في سلطانه عن الشمس نفي أن يتسهل لها أن تطمس نوره وتذهب سلطانه، ويرجع ذلك إلى نفي قدرتها على الطمس وإذهاب السلطان، فيكون المعنى بناء على قاعدة التقديم أن الشمس لا تقدر على ذلك بل غيرها يقدر عليه وهو الله عز وجل، وهذا بعد إثبات الجريان لها بتقدير العزيز العليم مشعر بكونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها" (2). 3- ويصح أن يكون هذا التعبير أيضًا لمجرد نفي الفعل عن الاسم من غير إرادة إثباته إلى جهة أخرى مغايرة ولا تخصيصه به، وذلك نظير قولنا لمن قال: ماذا يفعل محمد وخالد؟ (محمد يقرأ وخالد نائم)، فيقول آخر: (لا محمد يقرأ ولا خالد نائم). فهذا يفيد نفي القراءة عن محمد لكنه لم يثبت لزومًا أن شخصًا آخر يقرأ. ونظير هذا أن تقول: (لا أبي ساعدني ولا أخي أعانني) فهذا يفيد نفي الفعل عن جهتين ولكن لا يفيد إثبات ذلك لغيرهما لزومًا. وهذا قد يكون من هذا الباب. 4- إن هذا التقديم قد يكون لغرض العناية والاهتمام، ذلك أنه جرى ذكر للشمس والقمر قبل هذه الآية، فقد قال: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} وقال: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} فناسب تقديم الشمس للإسناد إليها؛ لأن السياق في الكلام على الليل والنهار والشمس والقمر. 5- إن هذا التعبير ربط الكلام بما قبله، ولو قال: (لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر...) لم يرتبط الكلام، فإنه لو قال: (والشمس تجري لمستقر لها... والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم.. لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر) لوجدت الكلام مقطعًا غير متصل، بخلاف قوله: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا... } . (1) انظر التفسير الكبير 26/73، روح المعاني 23/22. (2) أنوار التنزيل 585. (3) روح المعاني 23/21. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 183 إلى ص 187. * * * {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} التنوين في (كل) يفيد العموم، أي كل الأجرام تسبح، فدخل فيها الشمس والقمر. ولو أضاف أو بين بمن قال: (وكل منهما) لتخصص الكلام بهما. فقطع (كل) عن الإضافة وسع المعنى ودخل في الحكم ما لم يجر له ذكر من الأجرام. ثم إن إسناد السباحة إلى الجمع أفاد أن المقصود عموم الأجرام السماوية، وأنها كلها لها أفلاك لا تتعداها تسبح فيها، وأن ذلك تقدير العزيز العليم. فنفى عنها كلها الإرادة والاختيار، وبذلك نفى أن يكون منها ما يستحق أن يعبد كما يفعل قسم من الناس، فنفى بهذا القطع عن الإضافة وإسناد السباحة إلى الجمع القدرة والاختيار عنها جميعها، واثبت أنها كلها مسخرة سخرها ربها وخالقها. جاء في (التفسير البيضاوي) " (وكل): وكلهم، والتنوين عوض عن المضاف إليه، والضمير للشموس والأقمار، فإن اختلاف الأحوال يوجب تعددًا ما في الذات أو للكواكب، فإن ذكرهما مشعر بها" (1). وجاء في (التفسير الكبير): "فإن قيل: فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظًا وتركها؟. فنقول: نعم، وذلك لأن قول القائل كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه، فإذا قال: (كل كذا) يدخل في الفهم عموم أكثر من العموم عند الإضافة... إذا كان (كل) بمعنى كل واحد منهم، والمذكور الشمس والقمر، فكيف قال: (يسبحون)؟. نقول: الجواب عنه من وجوه: (أحدها): ما بينا أن قوله: (كل) للعموم، فكأنه أخبر عن كل كوكب سيار... و(ثانيها): لما قال: { وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} والمراد ما في الليل من الكواكب قال: (يسبحون)" (2). وإسناد السباحة إلى ضمير العقلاء، وهو الواو، لتنزيل الأجرام منزلة العاقل من جهة أن ذكر أنها تسبح، والسباحة من فعل ذوي العقول، كما في قوله تعالى في حق الأصنام: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}، وقوله سبحانه: {أَلَا تَأْكُلُونَ} (3) ومن جهة أنها تسبح في فلك خاص لا تتعداه، كأنها شخص عاقل ملتزم بما حد له فهو لا يتعدى حدوده فلا يشذ ولا يخرج عن مداره ولا ينبغي بعضه على بعض، بل إن كلًا منها يعرف مكانه وفلكه وحدوده، فهذا يشعر كأن الأجرام عاقله ملتزمة وليست كالإبل الهائجة المطلقة من عقالها تشرد وتهيم كما يحلو لها. فإسناد السباحة إلى ضمير العقلاء كأن فيه إشعارًا بالأمان للناس مما فوقهم، فلا ترجمهم ولا تنقض عليهم فتهلكهم. وفي الآية إشارة إلى أن حركة الكواكب والأجرام دائرية، أي هي تدور في مسار لها محدد وليست منطلقة في الفضاء على غير هدى. جاء في (لسان العرب): " الفلك مدار النجوم والجمع أفلاك... الفراء: الفلك استدارة السماء... والفلك قطع من الأرض تستدير وترتفع عما حولها" (4). ثم إن اختيار لفظ السباحة أنسب شيء للتعبير عن حركة الأجرام، وقد اختار علماء العصر الحديث هذا اللفظ للتعبير عن الحركة في الفضاء لأنهم وجدوه أنسب لفظ للتعبير عنها. (1) أنوار التنزيل 585. (2) التفسير الكبير 26/74 – 75. (3) روح المعاني 23/25. (4) لسان العرب (فلك) ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 187 إلى ص 189.