عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ﴿٣٤﴾ ﴾ [يس آية:٣٤]
- ﴿لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿٣٥﴾ ﴾ [يس آية:٣٥]
{وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)}
بعد أن ذكر الحب – وهو الأهم - ذكر الجنات من النخيل والأعناب، وهما دون الحب بالنسبة إلى طعام الناس.
والمقصود بالنخيل والأعناب هما الشجر وليس الثمر، ولذلك قال فيما بعد: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} ولم يقل: (ليأكلوا منه). ثم إن قوله: (جنات) يدل على ذلك أيضًا.
وقدم شجرة النخيل على العنب لأنها أفضل منها، فإن فوائد النخلة كثيرة ولا يخلو أي جزء منها من فائدة. ولا تقاس شجرة العنب بالنخلة من حيث الفائدة، فشجر العنب ضئيلة الفائدة بخلاف ثمرها.
جاء في (التفسير الكبير): "في المواضع التي ذكر الله الفواكه لم يذكر التمر {بل ذكره} (1) بلفظ شجرته وهي النخلة، ولم يذكر العنب بلفظ شجرته بل ذكره بلفظ العنب والأعناب، ولم يذكر الكرم؛ وذلك لأن العنب شجرته بالنسبة إلى ثمرته حقيرة قليلة الفائدة، والنخل بالنسبة إلى ثمرته عظيمة جليلة القرد كثيرة الجدوى. فإن كثيرًا من الظروف منها يتخذ وبلحائها ينتفع ولها شبه بالحيوان فاختار منها ما هو الأعجب منها" (2).
وقد تقول: ولكنه قدم العب على النخل في موطن آخر من القرآن الكريم وهو قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} {عبس: 24 - 31}.
فنقول: لما يتقدم العنب على النخل في القرآن إلا في موطنين:أحدهما: في آيات عبس هذه.
والموطن الآخر: في سورة الرعد وهو قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} {الرعد: 4}.
أما آيات عبس فإنه ذكر فيها الأطعمة، فقد قال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} ، ثم ذكر عددًا منها فذكر الحب والعنب والزينون. أما النخل فإنه ليس بطعام وإنما هو اسم للشجرة التي تحمل التمر، في حين أن المذكور قبلها هو الثمر. فكل من العنب والزيتون ثمر، والحب طعام، أما النخل فهو شجر، فلما قال: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} قدم الأطعمة وأخر الشجر، ولذا جعل النخل بجنب الحدائق فقال: {وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا}.
هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه رتب المذكورات بحسب الكثرة، فالحب أكثر المذكورات وجودًا وإنتاجًا في العالم، ثم العنب وهو أقل من الحب وأكثر من الزيتون. إن العنب ينبت في أجواء متباينة تباينًا كبيرًا وإنتاجه في العالم أضعاف إنتاج الزيتون.
ثم ذكر الزيتون وهو أقل من العنب.
ثم النخل وهو أقل، وإنتاجه في العالم أقل بكثير من الزيتون، وهو لا يثمر إلا في أجواء خاصة وليس منتشرًا في الأرض انتشار الزيتون.
فرتب الأطعمة بحسب كثرتها في العالم.
أما آية الرعد فإنه ذكر فيها المتجاور من النبات واختلافه في الأكل، فبدأ بجنات الأعناب ثم انتهى إلى أقرب المتجاور وهو النخل الصنوان الذي أصله واحد وهو أقرب من كل متجاورين.
فبدأ بجنات الأعناب وهو قطع متجاورة من البساتين، ثم ذكر ما هو أقرب تجاورًا وهو الزرع في الحقل الواحد أو الحقول المتقاربة.
والزرع أقرب إلى بعضه من أشجار العنب، فإنه إذا كان في حقل واحد فهو أقرب إلى بعضه من الجنات المتعددة وإن كانت متجاورة. ثم إن نبتة الزرع أقرب إلى أختها من أشجار الكرم، إذ إن أشجار الفاكهة ينبغي أن تتباعد عن بعضها ليكثر ثمرها ويحسن، والزرع لا يحتاج إلى مثل ما يحتاج إليه الشجر من المسافات.
ثم انتهى إلى النخل الصنوان وغيره، وهو أقرب من كل شيء، إذ الصنوان: هو النخل الذي يخرج من أصل واحد، وهي الفسائل المتعددة التي تخرج من أصل النخلة، وهذه أقرب من كل شيء إلى بعضها، فهي أقرب المذكورات تجاورًا.
فرتبها بحسب التجاور، فبدأ بالجنات وانتهى إلى الأشجار التي تخرج من أصل واحد وهي الفسائل التي تخرج من نخلة واحدة.
فكان التقديم بحسب ما يقتضيه السياق.
وقال في الحب: {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} وقال في الثمر: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} بذكر لام التعليل؛ ذلك أن الناس يأكلون من الحب على الدوام وهم مستمرون على ذلك. أما الفاكهة فليست كذلك فهم لا يأكلون منها على الدوام وإنما يأكلونها في أوانها. ثم إن كثيرًا من الناس ليس بوسعهم أن يأكلوا الفاكهة إلا في أوقات متباعدة. ففرق بين ما هم مستمرون على أكله وما ليس كذلك.
وهناك سؤال وهو أنه لماذا ذكر الأكل بعد ذكر الحب مباشرة فقال: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ}، وأخر الأكل عن الثمار إلى ما بعد ذكر تفجير العيون ولم يجعلها بعد ذكر الجنات مباشرة فقال: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} ؟
قيل: إن سبب ذلك أن الحب لا يحتاج إلى العيون والأنهار الجارية، وإنما قد يكفيه ماء السحاب، بخلاف الجنات فإنها تحتاج إلى ماء مستديم لسقيها، وذلك يكون من العيون والآبار والأنهار، فحاجة الجنات إلى العيون والماء المستديم أكثر من حاجة الحب، فالعيون أو ما قام مقامها هو الشرط الأول لقيام الجنات، وهو مبدأ قيامها.
جاء في (التفسير الكبير): "لم أخر التنبيه على الانتفاع بقوله: (ليأكلوا) عن ذكر الثمار حتى قال: {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} وقال في الحب: {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} عقب ذكر الحب، ولم يقل عقب ذكر النخيل والأعناب ليأكلوا؟.
نقول: الحب قوت وهو يتم وجوده بمياه الأمطار، ولهذا يرى أكثر البلاد لا يكون بها شيء من الأشجار والزرع والحراثة لا تبطل هناك اعتمادًا على ماء السماء، وهذا لطف من الله حيث جعل ما يحتاج إليه الإنسان أعم وجودًا.
وأما الثمار فلا تتم إلا بالأنهار ولا تصير الأشجار حاملة للثمار إلا بعد وجود الأنهار فلهذا أخر" (3).
وقد تقول: ولم أخر ذكر تفجير العيون عن ذكر الحب والفاكهة مع أن الماء سابق لهما وهو شرط لوجودهما؟
والجواب أن ذلك لأكثر من سبب:
1- منها أنه قدم المطعوم على المشروب، وذلك لأن الطعام أهم والحصول عليه أعسر، والناس يجهدون للحصول عليه، بخلاف الشرب فإن الحصول عليه أيسر، فقدم الطعام على المشروب.
وتقديم الطعام على المشروب هو الشائع في القرآن الكريم، فهو يقدم الطعام على الشراب إذا اجتمعا، قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} {البقرة: 60}، وقال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} {الشعراء: 79}، وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} {الواقعة: 63 - 64}، ثم قال بعدها: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} {الواقعة: 68}، وكذلك ههنا.
2- ومنها أن السياق في إحياء الموتى، فذكر الأرض الميتة وإحياءها وإخراج الحب والجنات منها دليلًا على ذلك، فقدم ما فيه آية عليه. فإحياء الأرض وإخراج الحب والجنات أدل على ذلك من تفجير العيون.
3- أنه ذكر الأكل ولم يذكر الشرب، فقد قال في الحب: {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} ، وقال في الجنات: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ}، ولم يقل في العيون: (ليشربوا منها) فلذلك قدم ما يؤكل وأخر ما لم يجر له ذكر، هذا إضافة إلى أنه ذكر تفجير العيون لغرض الأكل وهو إحياء الأرض وإنشاء الجنات وليس للشرب، فقدم ما عليه مدار الكلام والسياق.
4- أنه قال: {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ}، والضمير في (فيها) يعود إما على الجنات أو يعود على الأرض.
فإن عاد على الجنات أي: (وفجرنا في الجنات من العيون) كانت العيون متأخرة عن الجنات في الوجود لأن التفجير كام في الجنات فتكون الجنات سابقة لها، وعلى هذا تكون العيون متأخرة عنها في الوجود، فناسب تأخيرها وتقديم ما قدم لسبقه.
وإن كان الضمير يعود على الأرض لا على الجنات أي: (وفجرنا في الأرض من العيون) فالتفجير لا علاقة له بجنات النخيل والأعناب؛ لأن التفجير سيكون في الجنات وغيرها، وقد يكون سابقًا للجنات أو متأخرًا عنها.
5- إن الماء هو السبب الأول لإخراج الحب والجنات وليست العيون، فإن المهم هو توفر الماء لإنبات الزرع وإخراج الحب والجنات، سواء كان ذلك عن طريق العيون أم عن غيرها. وإن أكثر الجنات في الأرض ليس فيها عيون ماء وإنما تسقى بالماء. أما تفجير العيون فيها فللزيادة في النعمة، ولذا فالعيون لا ترتبط بالجنات. فقد تكون في الجنات عيون ماء وقد لا تكون. وقد تتفجر عين في جنة من الجنات بعد مدة غير قليلة من وجودها فيكون ذلك زيادة في الخير، كما قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } {الكهف: 32 - 34}. فذكر الجنتين وأن كلًا منهما آتت أكلها ولم تظلم منه شيئًا، ثم قال: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا}، مما يدل على أن التفجير كان في زمن متأخر زيادة في الاختبار والابتلاء، إذ التفجير كان خلال الجنتين.
فلا ارتباط مكانيًا أو زمانيًا لازم بين الجنات والعيون، إذ قد تكون جنات وليس فيها عيون ماء، وقد تكون عيون وليس ثمة جنات.
ثم إن الجنات أهم وأفضل من عيون الماء؛ لأنه بها غذاء الناس وطعامهم، أما الماء فمقدور عليه الغالب.
إن الشائع في التعبير القرآني أنه إذا اجتمعت الجنات والعيون قدم الجنات على العيون، قال تعالى: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} {الشعراء: 146 - 147}.
وقال: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} {الشعراء: 57}.
وقال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} {الدخان: 25}.
وقال: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} {الشعراء: 133 - 134}.
وقال: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} {نوح: 12}.
غير أنه يقدم الماء إذا أراد أن يبين أنه سبب الإنبات كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} {المؤمنون: 18 - 19}.
وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} {ق: 9}.
وقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} {الأنعام: 99}.
وقال: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} {النبأ: 14 - 16}.
وغير ذلك.
فحسن تقديم ما قدم من الحب والجنات من كل وجه، والله أعلم.
ثم لننظر من ناحية أخرى أنه قال: {وَفَجَّرْنَا فِيهَا} بتضعيف العين للدلالة على الكثرة، فإن (فعل) المضعف العين يفيد التكثير والمبالغة، أما الفعل الثلاثي فلا يفيد التكثير، قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} {الإسراء: 90 - 91}،
فقال: (تفجر) بالتخفيف؛ لأنه ينبوع واحد. في حين قال: (فتفجر الأنهار) بالتضعيف لأنه ذكر أنهارًا لا ينبوعًا.
وقال تعالى: {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} {القمر: 12} وذلك أنه جعل الأرض عيونًا ناكلها.
وقد تقول: ولكنه قال: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} {الكهف: 33} بالتشديد.
فنقول: إن ذلك يدل على كثرة الماء في هذا النهر وغزارته مما يدل على كثرة التفجير.
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) التفسير الكبير 26/67.
(3) التفسير الكبير 26/67 وانظر روح المعاني 23/7 – 8.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 165 إلى ص 172.
* * *
{وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}
تحتمل أن تكون (ما) نافية، أي أن الثمر لم تعمله أيديهم وإنما هو من فعل الله كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} {يس: 71}، فالثمر لم تعمله أيدي الناس وإنما عملته يد القدرة الإلهية.
وتحتمل أن تكون اسمًا موصولًا أيضًا، والمعنى: (ليأكلوا من ثمرة ومن الذي عملته أيديهم).
والموصولة تكون على أكثر من معنى.
من ذلك أن المعنى: ليأكلوا من ثمره ومما يعلمون من الثمار من الشراب والدبس وغيرهما مما يعمله الناس من الثمار.
وقيل: إن المعنى على الموصولة: ليأكلوا مما عملته أيديهم من الغرس والسقي والكد والقيام على أمرها حتى تنضج.
وقيل: إن المعنى يحتمل أيضًا أن يذكرنا أن الثمر على نوعين:
قسم لا يدخل فيه عمل الإنسان وإنما يخرجه الله دون أن تعمل فيه يد الإنسان.
وقسم يتعب فيه الإنسان ويكد من غرس وتعهد وتأبير وما إلى ذلك فتعمل فيه يد الإنسان.
فذكر هنا نوعي الثمر: ما لم تعمل أيديهم وما عملته أيديهم.
والوجه الأول أقوى في معنى الموصولة.
ويترجح عندي معنى النفي، وكلاهما محتمل.
جاء في (الكشاف): "{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} والضمير لله تعالى، والمعنى: ليأكلوا مما خلقه الله من الثمر، ومما (عملته أيديهم) من الغرس والسقي والآبار وغير ذلك من الأعمال إلى أن بلغ الثمر منتهاه وإبان أكله. يعني أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه، وفيه آثار من كد بني آدم. وأصله (من ثمرنا) كما قال: وجعلنا، وفجرنا، فنقل الكلام من التكلم إلى الغيبة على طريقة الالتفات. ويجوز أن يرجع إلى النخيل وتترك الأعناب غير مرجوع إليها؛ لأنه علم أنها في حكم النخيل فيما علق به من أكل ثمره.
ويجوز أن يراد من ثمر المذكورات وهو الجنات...
ولك أن تجعل (ما) نافية على أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه" (1).
وجاء في (التفسير الكبير): "(ما) في قوله: { وَمَا عَمِلَتْهُ} من أي الماءات هي؟
نقول: فيها وجوه:
(أحدها) نافية، كأنه قال: وما عملت التفجير أيديهم بل الله فجر.
و(ثانيها) موصولة بمعنى (الذي) كأنه قال: والذي عملته أيديهم من الغراس بعد التفجير يأكلون منه أيضًا ويأكلون من ثمر الله الذي أجرجه من غير سعي من الناس...
(المسألة الرابعة): على قولنا (ما) موصولة، يحتمل أن تكون بمعنى: وما عملته - أي بالتجارة - كأنه ذكر نوعي ما يأكل الإنسان بهما، وهما الزراعة والتجارة. ومن النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعنب والتمر وغيرهما، ومنه ما يعمل فيه عمل صنعة فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخة، وكالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح" (2).
وجاء في (روح المعاني): "{ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}: (ما) موصولة في محل جر عطف على (ثمره)... أي وليأكلوا من الذي عملوه أو صنعوه، والمراد به ما يتخذ من الثمر كالعصير والدبس وغيرهما...
وقيل: (ما) نافية وضمير (عملته) راجع إلى الثمر" (3).
{أَفَلَا يَشْكُرُونَ}
أي ألا يستدعي ذلك شكر المنعم الذي أمدهم بهذه النعم الجليلة؟
قال ذلك بصيغة الاستفهام، ولم يقل: (فليشكروا لي) بصيغة الأمر وذلك لأنه أراد أن يقول لهم: ألا يستوجب ذلك شكر ربهم؟
وهو عرض لطلب الشكر مع إنكار لعدم الشكر، وفيه بيان أن عدم شكر المنعم قبيح، وجاء بالفاء الدالة على السبب؛ لأن ما ذكر من النعم السابقة من الدواعي الموجبة للشكر، فالنعم سبب للشكر ومدعاة إليه.
جاء في (روح المعاني): "{أَفَلَا يَشْكُرُونَ} إنكار واستقباح لعدم شكرهم للمنعم بالنعم المعدودة بالتوحيد والعبادة. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أيرون هذه النعم أو أينتعمون بها فلا يشكرون المنعم بها" (4).
وقد تقول: لقد قال في موطن آخر: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} {الواقعة: 70}، فجاء بـ (لولا) الدالة على التحضيض وهو الطلب بحث وشدة، وهنا جاء بما يفيد العرض مع استثارة النفوس لشكر المنعم فما الفرق؟
فنقول: إن السياق في سورة (يس) هو تعداد النعم وذكر الآيات والدلائل ومظاهر الرحمة بهم.
أما في الواقعة فهو في مقام التحذير والتوعد والتهديد بالعقوبة وزوال النعمة، قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} {الواقعة: 60 - 70}.
فناسب هذا التهديد والتحذير الحض على الشكر والحث عليه.
فاتضح الفرق.
ثم من الملاحظ أنه أطلق الشكر ولم يفيده، فإن الشكر قد يكون للنعمة وقد يكون للمنعم، قال تعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} {النحل: 114}، وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} {النمل: 19}.
فهذا من شكر النعم.
وقد يكون الشكر للمنعم، قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} {البقرة: 172}.
وقال: {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} {سبأ: 15}.
وهنا أطلق الشكر ليتناول شكر النعمة وموليها.
(1) الكشاف 2/587.
(2) التفسير الكبير 26/68.
(3) روح المعاني 23/8.
(4) روح المعاني 23/9.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 172 إلى ص 176.