عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴿٣٣﴾    [يس   آية:٣٣]
{وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)} . لما ذكر الحشر في الآية السابقة وهي قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} ذكر الدليل على إمكان وقوعه وعلى أن ذلك بمقدوره سبحانه، فاستدل بإحياء الأرض الميتة وإخراج الحب والجنات فيها فقال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} ومعنى الآية العلامة والدليل، فجعل إحياء الأرض الميتة دليلًا على إحياء الموتى في الآخرة. ولا يقتصر الاستدلال بهذه الآية على إحياء الموتى، وإنما فيها دلائل على أمور أخرى، منها توحيد الله وقدرته البالغة ورحمته، فذكر جملة من نعمة عليهم. جاء في (التفسير الكبير): "{وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ} وفيه مسائل: (المسألة الأولى): ما وجه تعلق هذا بما قبله؟. نقول: مناسب لما قبله من وجهين: (أحدهما): أنه لما قال (وإن كل لما جميع) كان ذلك إشارة إلى الحشر، فذكر ما يدل على إمكانه قطعًا لإنكارهم واستبعادهم وإصرارهم وعنادهم، فقال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} كذلك نحيي الموتى. و(ثانيهما): أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذبين وكان شغلهم التوحيد، ذكر ما يدل عليه، وبدأ بالأرض لكونها مكانهم لا مفارقة لهم عند الحركة والسكون... وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تعدد النعم، كأنه يقول: آية لهم الأرض، فإنها مكانهم ومهدهم الذي في تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم، وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لابد لهم منها فهي نعمة. ثم إحياؤها بحيث تخضر نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه. ثم إخراج الحب منها ثالثة فإن قوتهم يصير في مكانهم... ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة، وأما الأشجار بحيث تؤخذها منها الثمار فتكون بعد الحب وجودًا. ثم فجرنا فيها من العيون ليحصل لهم الاعتماد بالحصول، ولو كان ماؤها من السماء لحصل، ولكن لم يعلم أين تغرس وأين يقع المطر وينزل القطر. وبالنسبة إلى إحياء الموتى كل ذلك مفيد؛ وذلك لأن قوله: {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} كالإشارة إلى الأمر الضروري الذي لا بد منه، وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} كالأمر المحتاج إليه الذي إن لم يكن لا يغن الإنسان عنه لكنه يبقى مختل الحال. وقوله: {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} إشارة إلى الزينة التي إن لم تكن لا تغن الإنسان ولا يبقى في ورطة الحاجة لكنه لا يكون على أحسن ما ينبغي" (1). لقد قال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ} فجعل الآية لهم مع أنها لا تخصم وحدهم بل هي آية لعموم العقلاء من خلق الله؛ وذلك لأنهم ينكرون الحياة بعد الموت، ولأنهم مشركون لا يقرون بالتوحيد، فحاجهم بما يدل على إحياء الموتى وبما يدل على التوحيد. جاء في (التفسير الكبير): "الأرض آية مطلقًا فلم خصصها بهم حيث قال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ} ؟ نقول: الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه، وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له دليل" (2). والضمير في (لهم) يعود على أهل مكة ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر (3). وقدم (آية) وهي الخبر على المبتدأ وهي الأرض ولم يقل (والأرض الميتة آية لهم) وذلك لأن الكلام على العلامات الدالة على قدرته وليس الكلام على الأرض. وقد ساق الليل والنهار والشمس والقمر دلائل على قدرته وليس لذاتها ولذا قال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ ... وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ ... وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ }. ثم إنه قدم الآية على الجار والمجرور فقال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ} للدلالة على أنها آية لهم ولكنها لا تخصهم وحدهم، ولو قدم الجار والمجرور فقال: (ولهم الأرض الميتة آية) لكان ذلك يعني تخصيص الآية بأنها لهم دون غيرهم، في حين أنها آية للجميع وليست آية خاصة بهم. فالتقديم في نحو هذا أكثر ما يفيد التخصيص وذلك نحو قوله تعالى: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً} {الأعراف: 73}، فقدم (لكم) على (آية) لأنها آية خاصة بهم دون غيرهم. ونحوه قوله: {رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً} {آل عمران: 41}، فقدم الجار والمجرور لأنه طلب آية خاصة دون غيره. وبدأ بذكر الأرض لأنها مسكنهم ومستقرهم (4). (1) التفسير الكبير 26/65 – 66. (2) التفسير الكبير 26/65. (3) البحر المحيط 7/334، روح المعاني 23/6. (4) انظر البحر المحيط 7/334. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 161 إلى ص 164. * * * {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} بدأ بالحب لأنه طعام الإنسان وقوته وهو أهم ما يأكله البشر، وهم من دونه جياع، وإذا فقد الحب هلك الناس. وقدم الجار والمجرور (منه) على الفعل (يأكلون) لأهميته، لبيان أن البشر إنما يأكلون منه، ولا يكون قوت من دون الحب، وهو من أجل النعم، وكأن الأكل لا يكون إلا منه. جاء في (الكشاف): "{فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} بتقديم الظرف للدلالة على أن الحب هو الشيء الذي يتعلق به معظم العيش ويقوم بالارتزاق منه صلاح الإنس، وإذا قل جاء القحط ووضع الضر، وإذا فقد جاء الهلاك ونزل البلاء" (1). وجاء في (روح المعاني): "(فمنه) أي من الحب بعد إخراجنا إياه، والفاء داخلة على المسبب، و(من) ابتدائية، أو تبعيضية، والجاء والمجرور متعلق بقوله تعالى: (يأكلون) والتقديم للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به لما في ذلك من إبهام الحصر للاهتمام به حتى كأنه لا مأكول غيره" (2). (1) الكشاف 2/587. (2) روح المعاني 23/7. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 164 إلى ص 164.