عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)}
لما بين أن المهلكين لا رجعة لهم إلى الدنيا ذكر أنهم كلهم راجعون إليه محضرون لديه. وفي الآية تنبيه على أن من أهلكه الله في الدنيا وعاقبة لا يتركه سدى بل سيرجعه إليه ويحاسبه ويعاقبه.
جاء في (التفسير الكبير): "لما بين الإهلاك بين أنه ليس من أهلكه الله تركه، بل بعده جمع وحساب وحبس وعقاب" (1).
و(إن) نافية، و(لما) بمعنى (إلا).
و(كل) مبتدأ، وخبره (جميع)، وليست (جميع) ههنا بمعنى (كل) وإنما معنى (جميع) ههنا (مجموعون) فهي فعيل بمعنى اسم المفعول. والمعنى أن كلهم مجموعون محضرون. و(جميع) قد تكون بمعنى مجموعين، وبمعنى مجتمعين، تقول: قوم جميع أي مجتمعون (2).
وتقول: (الطلاب جميع) أي الطلاب مجتمعون، و(نحن جميع) أي مجتمعون، فهذا كلام تام.
جاء في (الكشاف): "فإن قلت: كيف أخبر عن (كل) بجميع، ومعناهما واحد؟
قلت: ليس بواحد؛ لأن كلًا يفيد معنى الإحاطة وأن لا ينفلت منهم أحد.
والجميع معناه الاجتماع، وأن المحشر يجمعهم، والجميع: فعيل بمعنى مفعول، يقال: حي جميع، وجاءوا جميعًا" (3).
والمقصود بـ (محضرون) أنهم محضرون للحساب، و(لدينا) ظرف قدم على متعلقه (محضرون) لإفادة الحصر، بمعنى أن الإحضار لديه وليس لدى غيره. وهو نظير تقديم الجار والمجرور في قوله: {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ}.
و{مُحْضَرُونَ} إما خبر ثان أو نعت لـ (جميع) على المعنى، ويصح إفراده حملًا على اللفظ فيقال: (وإن كل لما جميع لدينا محضر) كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} {القمر: 44}.
وقد تقول: ولم حمل على المعنى في (يس) وحمل على اللفظ في القمر؟
فنقول: لما ذكر القرون المهلكة الكثيرة في (يس) ناسب أن يجمع فيقول: (محضرون).
أما في سورة القمر فإنهم فريق واحد أو جمع واحد وليس جموعًا كما قال تعالى بعدها: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} {القمر: 45}، فناسب ذلك الإفراد.
ثم إن الانتصار إنما هو وصف للفريق كله أو للجمع كله وليس لكل فرد. فيقول الفريق المنتصر أو الجيش المنتصر: (نحن انتصرنا) أو (جيشنا انتصر). ولا يقول الجندي: أنا انتصرت. فالنصر وصف للمجموع لا لكل فرد على حدة، فوحد الوصف لأنه وصف للفريق أو للجمع لا لأفراده واحدًا. بخلاف الإحصار للحساب أمام الله فإن كل فرد سيحضر أمام ربه ويمثل للحساب كما قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} {مريم: 95}، فناسب الجمع في (يس) من جهة أخرى.
وقد تقول: ولم قال إذن في سورة الشعراء: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} {الشعراء: 56}، فجمع ولم يفرد؟
والجواب: أن ذلك لأكثر من سبب ويدلل عليه السياق، قال تعالى: {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} {الشعراء: 53 - 56}.
فإن فرعون أرسل في المدائن المتعددة أناسًا يحشرون الناس ويجمعونهم يبلغونهم قرار فرعون المذكور، فهم جموع متعددة لا جمع واحد، فناسب الجمع من جهة.
ومن جهة أخرى لم يقل: (وإنا لجميع حاذر) لأنه لم يرد أن يجعل الحذر وصف الفريق على العموم، بل أراد أن يجعله وصفًا لكل فرد، فكل فرد بعينه ينبغي أن يكون حاذرًا، فهو ليس مثل (نحن جميع منتصر) الذي هو وصف الجمع لا وصف الأفراد، فإن هذا وصف كل فرد في المجموع. فناسب الجمع ههنا.
فاتضح أن كل تعبير هو أنسب في مكانه، والله أعلم.
(1) التفسير الكبير 26/64.
(2) انظر لسان العرب (جمع) 9/404.
(3) الكشاف 2/587 وانظر روح المعاني 23/6.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 158 إلى ص 160.