عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿٣٠﴾    [يس   آية:٣٠]
{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)} * * * {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} الحسرة: أشد الندم، والغم يركب الإنسان حتى يكون حسيرًا منقطعًا لا يستطيع فعل شيء لتدارك ما فاته. جاء في (لسان العرب): "الحسرة أشد ندم حتى يبقى النادم كالحسير من الدواب الذي لا منفعة فيه" (1). وقال الزجاج: "الحسرة أمر يركب الإنسان من كثرة الندم على ما لا نهاية له حتى يبقى حسيرًا" (2). و"الحسرة على ما قال الراغب: الغم على ما فات والندم عليه، كأن المتحسر انحسر عنه قواه من فرط ذلك أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه" (3). ومعنى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} على أشهر الأقوال أنه نداء للحسرة مجازًا، أي أقبلي يا حسرة فهذا وقت حضورك. جاء في (الكشاف) في قوله: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}: "نداء للحسرة عليهم، كأنما قيل لها: تعالي يا حسرة فهذه أحوالك التي حقك أن تحضري فيها وهي حال استهزائهم بالرسل، والمعنى: أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون ويتلهف على حالهم المتلهون، أو هم متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين" (4). ويقوي الدلالة على النداء قوله تعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} {الفرقان: 13 - 14}، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} {الانشقاق: 10 - 11}. ومعنى دعاء الثبور مناداته للحضور بأن يقولوا: واثبوراه، أو: يا ثبوراه، أي احضر يا ثبور فهذا وقتك وحينك. والثبور: الهلاك (5). ولا يقصد حقيقة النداء ولكن المقصود بيان أن العباد أوقعوا أنفسهم في أمر عظيم لا يستطيعون منه مخرجًا تركبهم منه الحسرة مركبًا عظيمًا لا تفارقهم، وينالهم من الغم والندم ما يملأ نفوسهم، فليس في نفوسهم مكان لغير الكرب والندم، وليس فيها موضع استرواح رائحة أمل ولا تنسم نسمة فرج، فهم متحسرون نادمون منقطعون لا تفارقهم الحسرة والندم والغم أبد الأبدين. وعبر عن ذلك تفظيعًا لما يصيبهم، وهو نظير قولنا عن شخص وقد عمل عملًا نعلم أنه سيلحقه منه خسران كبير: يا خسارته، يا ويله مما سيحصل، نقول ذلك استفظاعًا لما يصيبه واستعظامًا له. والعباد هم المكذبون بالرسل المستهزئون بهم. جاء في (التفسير الكبير): "من المتحسر؟ تقول فيه وجوه: (الأول): لا متحسر أصلًا في الحقيقة، إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عند تحقق العذاب. وههنا بحث لغوي: وهو أن المفعول قد يرفض رأسًا إذا كان الغرض غير متعلق به، يقال: (إن فلانًا يعطي ويمنع) ولا يكون هناك شيء معطي، إذ المقصود أن له المنع والإعطاء، ورفض المفعول كثير، وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل، والوجه فيه ما ذكرنا، أن ذكر المتحسر غير مقصود، وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في ذلك الوقت. (الثاني): أن قائل (يا حسرة) هو الله على الاستعارة تعظيمًا للأمر وتهويلًا له حيث يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني. أو نقول: ليس معنى قولنا: يا حسرة و يا ندامة، أن القائل متحسر أو نادم، بل المعنى أنه مخبر عن وقوع الندامة ولا يحتاج إلى تجوز في بيان كونه تعالى قال: (يا حسرة) بل يخبر به على حقيقته إلا في النداء فإن النداء مجاز والمراد الإخبار" (6). وجاء في (تفسير ابن كثير): "{يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} أي يا ويل العباد، وقال قتادة: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} أي يا حسرة العباد على أنفسهم على ما ضيعت من أمر الله وفرطت في جنب الله" (7). وجاء في (روح المعاني): "ولعل الأوفق للمقام المتبادر إلى الأفهام نداء حسرة كل من يتأتى منه التحسر، فقيه من المبالغة ما فيه " (8). (1) لسان العرب (حسر) 5/262. (2) البحر المحيط 7/332. (3) روح المعاني 23/3. (4) الكشاف 2/586، وانظر التفسير الكبير 26/62، البحر المحيط 7/332ـ روح المعاني 23/3. (5) انظر الكشاف 2/401، 3/325، البحر المحيط 6/485، 8/447، روح المعاني 18/244، 3/81. (6) التفسير الكبير 26/62 – 63. (7) تفسير ابن كثير 3/570. (8) روح المعاني 23/4. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 142 إلى ص 145. * * * {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وهذا بيان سبب الحسرة والندم. قوله: (من رسول) يفيد الاستغراق، والمعنى: أنه لم يسلم رسول من الاستهزاء. وقد تقول: ولم قال ههنا: (من رسول) وقال في الزخرف: (من نبي)؟ فنقول: إن كل لفظة ناسبت الموطن الذي وردت فيه. فقد قال في الزخرف: {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {الزخرف: 6 - 7}. فقوله: (كم أرسلنا) يفيد التكثير، فإن (كم) هذه خبرية وهي تفيد التكثير، والأنبياء أكثر من الرسل، فإن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولًا، فناسب كلمة (نبي) كم الخبرية. جاء في (ملاك التأويل): "لما تقدم في آية الزخرف لفظ (كم) الخبرية، وهي للتكثير، فناسب ذلك كله من يوحى إليه من نبي مرسل أو نبي غير مرسل. فورد ما يعم الصنفين عليهم السلام" (1). وتقديم (به) على الفعل للاهتمام، إذ المفروض أن يستقبل العباد رسولهم بالطاعة والاستجابة والإكرام لأنه مرسل إليهم من ربهم ولكنهم استقبلوه بالاستهزاء والسخرية. وذهب صاحب (روح المعاني) إلى أن هذا التقديم للحصر الادعائي أو لمراعاة الفاصلة. قال: "وبه متعلق بيستهزئون، وقدم عليه للحصر الادعائي، وجوز أن يكون لمراعاة الفواصل" (2). ومعلوم أن تقديم المعمول على عامله لا يقتصر على معنى الحصر. نعم إن إرادة الحصر فيه كثيرة ولكن قد يكون التقديم لغير ذلك من مواطن الاهتمام وذلك كقوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} {النحل: 16}، فإن التقديم هنا لا يفيد الحصر، إذ الاهتداء لا يقتصر على النجوم، بل إن وسائل الاهتداء كثيرة قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} { النحل: 15}، فذكر من وسائل الاهتداء الجبال والأنهار والسبل (3). والأظهر فيما نرى أن التقديم ههنا إنما هو للعناية والاهتمام، ويجوز أيضًا أن يكون لما ذكره صاحب( روح المعاني) والله أعلم. (1) ملاك التأويل 2/584. (2) روح المعاني 23/4. (3) انظر كتابنا (الجملة العربية تأليفها وأقسامها). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 145 إلى ص 146.