عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ ﴿٢٨﴾ ﴾ [يس آية:٢٨]
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)}
أي لم يحتج إنزال جند من السماء ليهلكهم (1)، فهم أتفه من ذلك.
وقوله: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} يعني أنه ما كان يصح في حكمتنا وتقديرنا أن ننزل عليهم جندًا من السماء ولا ينبغي ذلك (2)؛ لأنهم أقل شأنًا من هذا.
وقيل أيضًا إن المعنى أننا: "ما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذابًا يدمرهم" (3).
وعلى هذا يكون معنى قوله: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} أنه لا ينبغي أن ننزل على هؤلاء جندًا من السماء لإهلاكهم، وإننا لم نكن نفعل ذلك فيما مضى.
فيكون المعنى نفي الإنزال على وجه العموم بدءًا من الماضي إلى هؤلاء القوم.
وأما إنزال الجنود لنصرة رسولنا محمد في بدر والأحزاب فذلك إنما كان تعظيمًا لشأن سيدنا محمد ، وهو لا يشمله قوله: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} فإن ذلك متعلق بالأمم الماضية.
جاء في (التفسير الكبير): "{وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} أية فائدٍة فيه مع أن قوله: (وما أنزلنا) يستلزم أنه لا يكون من المنزلين؟.
نقول: قوله: (وما كنا) أي ما كان ينبغي لما أن ننزل؛ لأن الأمر كان يتم بدون ذلك فما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى إنزال. أو نقول: (وما أنزلنا، وما كنا منزلين) في مثل تلك الواقعة جندًا في غير تلك الواقعة. فإن قيل: فكيف أنزل الله جنودًا في يوم بدر وفي غير ذلك حيث قال: {وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} {التوبة: 26}؟ نقول: ذلك تعظيمًا لمحمد ". (4)
وذهب قوم إلى أن (ما) في قوله: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} ليست نافية وإنما هي اسم موصول معطوف على (جند) أي ما أنزلنا على قومه من جند من السماء والذي كنا ننزله على الأمم من أنواع العذاب. ورده أبو حيان بأن ذلك يعني عطف المعرفة على النكرة المجرورة بمن الزائدة وهو لا يصح. جاء في (البحر المحيط): "وقالت فرقة: (ما) اسم معطوف على جند. قال ابن عطية: أي من جند ومن الذي كنا منزلين على الأمم مثلهم انتهى.
وهو تقدير لا يصح لأن (من) في (من جند) زائدة، ومذهب البصرين غير الأخفش أن لزيادتها شرطين:
أحدهما: أن يكون قبلها نفي أو نهي أو استفهام.
والثاني: أن يكون بعدها نكرة.
وإن كان كذلك فلا يجوز أن يكونن المعطوف على النكرة معرفة، لا يجوز (ما ضربت من رجل ولا زيد) وإنه لا يجوز (ولا من زيد)، وهو قدر المعطوف بـ (الذي)، وهو معرفة، فلا يعطف على النكرة المجرورة بمن الزائدة" (5).
ورد أبي حيان في نظر، فإن العطف في نحو هذا جائز. غير أنه لا يعطف على اللفظ وإنما يعطف على الموضع. فإنه لا يصح أن نقول (ما جاءني من امرأةٍ ولا محمود) بجر محمود، وإنما نقول ذلك برفع محمود. ولا يصح أن نقول: (ما رأيت من امرأةٍ ولا خالدٍ) بجر خالد، وإنما نقول: (ما رأيت من امرأة ولا خالدًا) بالنصب؛ لأنه لا يمكن توجه العامل إلى المعرفة.
جاء في (المغني) في باب (العطف على اللفظ): "وشرطه إمكان توجه العامل إلى المعطوف، فلا يجوز في نحو (ما جاء من امرأة ولا زيد) إلا الرفع عطفًا على الموضع لأن (من) الزائدة لا تعمل في المعارف" (6).
ونحو هذا يكون في العطف على اسم (لا) النافية للجنس، فإن اسم (لا) هذه لا بد أن يكون نكرة، فإن عطفت عليه معرفة تعين رفعه لأن (لا) لا تعمل في المعارف نحو (لا امرأة فيها ولا زيد) بالرفع فإنه لا يصح في (زيد) النصب أو بناؤه على الفتح. (7)
وعلى هذا فما المانع في الآية من أن تكون (ما) معطوفة على الموضع فتكون (جند) مجرورة و(ما) منصوبة مثل (ما رأيت من امرأة ولا زيدًا)؟
والمعنيان صحيحان يحتملها التعبير ويتسع لهما معًا، فيكون ذلك من التوسع في المعنى.
وقد أسند الإنزال إلى نفسه فقال: {وَمَا أَنْزَلْنَا} ليدل على أنه هو الذي أنزل العقوبة ، فهو الذي أرسل الرسل وهو الذي عززهم بثالث، وقد أسند ذلك إلى نفسه فقال: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ}
فناسب أن يسند الإنزال إلى نفسه أيضًا ليدل على أن الجهة المرسلة والمعاقبة واحدة، إذ لا يليق أن يكون هو المرسل والمعاقب غيره.
جاء في (التفسير الكبير) في قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا}: "قال ههنا: {وَمَا أَنْزَلْنَا} بإسناد الفعل إلى نفسه.
وقال في بيان حال المؤمن: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} بإسناد القول إلى غير مذكور، وذلك لأن العذاب من باب الهيبة فقال بلفظ التعظيم. وأما في {ادْخُلِ الْجَنَّةَ} فقال: (قيل) ليكون هو كالمهنأ بقول الملائكة حيث يقول له كل ملك وكل صالح يراه: ادخل الجنة خالدًا فيها" (8).
وقال: (على قومه) بإضافة القوم إلى ضمير الرجل القتيل، ذلك أن هذا الرجل أضافهم إلى نفسه فقال لهم: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}، فهم قومه وقد دعاهم بــ (يا قوم) ليتعطفهم ويدعوهم إلى ما يحييهم فقتلوه فقتلهم ربه سبحانه.
وقال: (من بعده) ولم يقل (بعده) للدلالة على أنه أنزل العذاب عليهم بعده مباشرة ولم يمهلهم. فإن (من) تفيد ابتداء الغاية. ولو قال: (وما أنزلنا على قومه بعده) لاحتمل الزمن القصير والطويل، فجاء بـ (من) ليدل على أنه عاجلهم بالعقوبة من دون إمهال.
جاء في (البحر المحيط): "وقوله: (من بعده) يدل على ابتداء الغاية، أي لم يرسل إليهم رسولًا إليهم ولا عاتبهم بعد قتله بل عاجلهم بالهلاك" (9).
وقال: (من جند) فجاء بـ (من) الدالة على الاستغراق ليدل على أنه لم ينزل جندًا قلوا أو كثروا.
فقد استغرق نفي الإنزال كل الجند، ولو لم يذكر (من) لاحتمل نفي إنزال الجنس وفي الوحدة، فقد يحتمل أنه أنزل جنديًا أو جنودًا كما يحتمل أنه لم ينزل أصلًا.
واختار كلمة (جند) على (ملك) لأنه في مقام العقوبة والمحاربة فكان اختيار لفظ الجند أنسب؛ فإن قومه حاربوا الله ورسله فحاربهم الله سبحانه من غير جند.
واختار الجند على الجنود فقال: (من جند) ولم يقل: (من جنود) ذلك أن الجنود جمع جند، فإن (الجند) يجمع على أجناد وجنود (10)، ونفي الجند يعني نفي الجنود، أما نفي الجنود فلا يعني نفي الجند؛ ذلك أن نفي الواحد مع (من) الاستغراقية يعني نفي الجنس كله، بخلاف نفي الجمع، فإنه إذا قال: (ما أنزلنا من جند) فإن هذا ينفي إنزال الجند والجنود.
ونحوه إذا قلت: (ما حضر من رجال) فإنك نفيت الجمع ولكن لم تنف الواحد أو الاثنين، فقد يكون حضر رجل أو رجلان. أما إذا قلت: (ما حضر من رجل) فقد نفيت الجنس على سبيل الاستغراق سواء كان واحدًا أم مثنى أم جمعًا فلم يحضر أحد.
فقوله: (من جند) نفى إنزال الجند والجنود، ولو قال: (من جنود) لم ينف إنزال الجند، فكان ما ذكره أعم وأشمل.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن (الجند) اسم جنس جمعي مفردة جندي، فالياء للواحد وحذفها يفيد الجنس مثل رومي وروم (11)، وزنجي وزنج.
أما الجنود فهو جمع تكسير. ومن المعلوم أن اسم الجنس يقع على القليل والكثير، فهو يقع على الواحد والاثنين والجمع. فإنك إذا عاملت روميًا واحدًا أو روميين جاز لك أن تقول: (عاملت الروم) أما الجمع فلا يصح فيه ذلك، وإنما يقع على الجمع فقط (12).
فقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ} نفي الواحد والاثنين والجمع لأنه نفى اسم الجنس الجمعي، ولو جاء بالجنود لم ينف الواحد والاثنين، فكان ما ذكره أولى من كل وجه.
واختار (ما) في النفي على (لم) فلم يقل: (ولم ننزل) وذلك لأن (ما) أقوى في النفي من (لم) (13).
وقد أكد النفي أيضًا بذكر (من) الاستغراقية المؤكدة، فأكد النفي باستعمال الحرف (ما) واستعمال (من) الاستغراقية.
وهناك أمر آخر حسن ذكر (ما) دون (لم) وهو ذكر (من) الاستغراقية، فإن القرآن لم يأت البتة بــ (من) الاستغراقية مع (لم) بخلاف (ما).
وقال: (من السماء) ولم يقل: (من السماوات)؛ لأن السماء أعم وأشمل من السماوات، فهي تشمل السماوات وتشمل أيضًا الجو والسحاب وما علاك على وجه العموم، فهي تشمل السماوات وزيادة (14)، فكان ذلك أشمل وأعم، كما ناسب ذكر (من) الاستغراقية ذكر السماء فإن كليهما للاستغراق والعموم.
وقد تقول: وما الحاجة إلى ذكر (السماء) وهو لم ينزل عليهم جندًا أصلًا لا من الارض ولا من السماء؟
فنقول: إنه ذكر أنه لم ينزل عليهم جندًا من السماء وإنما أهلكهم بصيحة منها.
فالسماء هي مبدأ إنزال العذاب لكن ليس بالجند وإنما بالصيحة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لم يذكر السماء لكانت الآية على النحو الآتي: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند وما كنا منزلين).
وهذا المعنى لا يصح؛ لأن قوله: {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} ينفي إنزال الجنود على أية حال سواء كام من السماء أم من غيرها. في حين أن الله سبحانه أنزل جنودًا وأقوامًا على آخرين فحاربوهم ودفع بعضهم ببعض وعاقب بعضهم ببعض.
وكل إتيان من مكان عال فهو نزول أو إنزال. وكل حرب حصلت بين قومين أو أقوام وانحدر أحدهما من مكان عال فهو نزول. وقد يعذب الله بعض الناس ببعض، ويدفع بعضهم ببعض، ويبعث بعضهم على بعض، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} {الحج: 40}، وقال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} {الأسراء: 5}.
ولا يخلو ذلك من إنزال جند. وكان يأجوج و مأجوج ينزلون من الجبل فيفسدون في الأرض. فلو حذف( من السماء) لم يستقم المعنى ولم يصح.
هذا وإنه لو حذف أي قيد لم يصح المعنى، فإن الآية هي {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} :
1- فإنه لو حذف (على قومه) لم يصح المعنى؛ لأن الله سبحانه أنزل جنودًا من السماء بعده وذلك لنصرة سيدنا محمد .
2- لو حذف (من بعده) لم يصح المعنى؛ لأن القصد هو معاقبة قومه بعد قتله، فإذا حذف الظرف لم يفهم أن العقوبة بسبب قتله. والمراد بيان ذلك.
3- ولو حذف (من جند) لم يصح المعنى؛ لأنه لا يعلم المنفي على وجه التحديد، ولكان النفي عامًا، وهو لا يصح، إذ سيكون التعبير: (وما أنزلنا على قومه من بعده من السماء وما كنا منزلين) وهو النفي لإنزال الجنود ولكل أنواع العذاب من السماء، بل هو نفي لكل إنزال من السماء سواء كان خيرًا أم شرًا، وهو لا يصح، لأن الله سبحانه أنزل عليهم وعلى من قبلهم عذابًا من السماء ولكن ليس جندًا كما أخبرنا ربنا سبحانه، فقد قال في قوم موسى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} {البقرة: 59}، وقال في قوم لوط: {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} {العنكبوت: 34}.
وأرسل على قومه وعلى من قبلهم الصيحة من السماء. والسماء كلمة عامة تشمل كل ما علا سواء كان سحابًا أم غيره، وقد فسر ربنا الرجز النازل على قوم لوط من السماء بأنه الصيحة وإرسال الحجارة، قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} {الحجر: 73 - 74}، فلا يصح الحذف.
4- ولو حذف (من السماء) لم يصح لما ذكرناه.
فكان أعدل الكلام وكلام ربنا سبحانه.
جاء في (التفسير الكبير): "قال: (من السماء) وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جندًا من الأرض فما فائدة التقييد؟
نقول: الجواب عنه من وجهين:
(أحدهما): أن يكون المراد: وما أنزلنا عليهم جندًا بأمر من السماء فيكون للعموم.
(وثانيهما): أن العذاب نزل عليهم من السماء، فبين أن النازل لم يكن جندًا لهم عظمة، وإنما كان ذلك بصيحة أخمدت نارهم وخربت ديارهم" (15).
(1) انظر التفسير الكبير 26/61، فتح القدير 4/356.
(2) انظر الكشاف 2/586، التفسير الكبير 26/62، روح المعاني 23/12، فتح القدير 4/356.
(3) تفسير ابن كثير 3/569.
(4) التفسير الكبير 26/62.
(5) البحر المحيط 7/331 – 332 وانظر روح المعاني 23/2.
(6) مغني اللبيب 2/473.
(7) انظر شرح الأشموني 2/12.
(8) التفسير الكبير 26/61.
(9) البحر المحيط 7/331.
(10) المصباح المنير (جند) 1/111.
(11) انظر المصباح المنير (جند) 1/111.
(12) انظر شرح الرضي على الشافية 2/178.
(13) انظر معاني النحو 4/227.
(14) انظر التعبير القرآني 52.
(15) التفسير الكبير 26/61.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 129 إلى ص 137.