عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ﴿٢٥﴾    [يس   آية:٢٥]
{إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)} أعلن إيمانه في هذا الجو المكفهر بكل صراحة وصدع بالحق من دون مواربة. وأعلن أنه بدأ بنفسه، وسبقهم إلى ما يدعوهم إليه، ولم ينتظر من أحد أن يسبقه فيشجعه ويقوي قلبه ويشد عضده، وفي ذلك محض الإيمان ومحض الإخلاص. ثم انظر إلى قوة إيمان هذا الرجل الذي تحدى قومه في ذلك الوقت الذي لا يطيقون فيه أن يسمعوا الرسل فهددوهم بالرجم إن لم يكفوا عن الدعوة. فقال: ها أنا آمنت بربكم فاسمعون. وقوله: (فاسمعون) يدل على أنه أعلن إيمانه بصوت ظاهر مسموع غير خفي ولا متلجلج، يسمعه كل أحد. وهذا يدل على أنه غير مبال بما سيحصل له من الرجم والتعذيب وما هو أكثر من ذلك. واختيار (إني آمنت) على (أنا آمنت) لما في ذلك من التوكيد والقوة. وقوله: (بربكم) دون (بربي) مع أنه قال قبلها {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} ليبين أن ربهم هو ربه وهو الذي فطره وإليه يرجعون، فهو ربه وربهم. وقيل: إن الخطاب بقوله: (بربكم) للرسل، أي آمنت بربكم الذي تدعون إليه. والحق أن الخطاب للجميع، فرب الرسل هو ربه ورب قومه، وهو قد أعلن ذلك على الملأ، وطلب من قومه اتباع الرسل والإيمان بما يدعونهم إليه. وعلى أية حال فهو صدع بالحق وجهر به ولم يبال بما سيحصل له من جراء إعلانه إيمانه هذا. قيل: وقوله: {آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} أولى من قوله: (آمنت بربي)؛ لأن كل شخص إنما هو مؤمن بربه فيقول له المقابل: وأنا آمنت بربي أيضًأ. فقوله: {آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} يدل على أنه الرب الذي يدعو إليه الرسل. ولو كان المقصود ربهم الذي يعبده قومه لما كان في قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ...} داع. وذكر الإيمان بالرب دون بقية الأسماء الحسنى له أكثر من مناسبة، فقد مر قول الرسل: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} فقال: {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} . وقوله: {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}، والرب هو الذي يهدي من الضلال؛ لأن الرب هو المربي والمرشد والمعلم. والهداية من أبرز صفات الرب، ولذلك كثيرًا ما تقترن الهداية باسم الرب وذلك نحو قوله تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} {طه: 49 - 50}، وقوله: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {الأنعام: 161}. فناسب ذكر الرب. وهناك أمر آخر حسن ذكر الرب وهو قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً} أي لا أتخذ من دونه إلهًا، أي معبودًا. وقال ههنا: {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} فجعله هو الإله وهو الرب، فهو إلهه وربه، وبذلك جمع له بين الألوهية والربوبية. جاء في (التفسير الكبير): "في المخاطب بقوله: (بربكم) وجوه: (أحدها) هم المرسلون. قال المفسرون: أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل هو على المرسلين، وقال: إني آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا لي. و(ثانيها): هم الكفار، كأنه لما نصحهم وما نفعهم، قال: فأنا آمنت فاسمعون. (وثالثها): بربكم أيها السامعون فاسمعون على العموم، كما قلنا في قول الواعظ حيث يقول: يا مسكين ما أكثر أملك وما أنزر عملك، يريد به كل سامع يسمعه. وفي قوله (فاسمعون) فوائد: (أحدها): أنه كلام مترو متفكر حيث قال: (فاسمعون) فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر. (وثانيها): أن ينبه القوم يقول: إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا: لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرت لآمنا معك. و(ثالثها): أن يكون المراد السماع الذي بمعنى القبول. ويقول القائل: نصحته فسمع قولي: أي قبله. فإن قلت: لم قال من قبل: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} وقال ههنا: {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} ولم يقل: آمنت بربي؟. نقول: قولنا الخطاب مع الرسل أمر ظاهر. لأنه لما قال: {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه. ولو قال (بربي) لعلهم كانوا يقولون: كل كافر يقول: لي رب وأما مؤمن بربي. وأما على قولنا: الخطاب مع الكفار فقيه بيان للتوحيد، وذلك لأنه لما قال: {أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} ثم قال {آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} فهم أنه يقول: ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم، بخلاف ما لو قال: آمنت بربي. فيقول الكافر: وأنا أيضًا آمنت بربي. ومثل هذا قوله تعالى: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} {الشورى:15}" (1) وجاء في (البحر المحيط): "ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق فقال مخاطبًا لقومه: {إِنِّي آَمَنْتُ بِرَبِّكُمْ} أي الذي كفرتم به، فاسمعون أي: اسمعوا قولي وأطيعون فقد نبهتكم على الحق، وإن العبادة لا تكون إلا لمن منه نشأتكم وإليه مرجعكم. والظاهر أن الخطاب بالكاف والميم وبالواو هو لقومه، والأمر على جهة المبالغة والتنبيه... وقيل: الخطاب في (بربكم) وفي (فاسمعون) للرسل" (2). وجاء في (روح المعاني): "الظاهر أن الخطاب لقومه شافههم بذلك وصدع بالحق إظهارًا للتصلب في الدين وعدم المبالاة بما يصدر منهم... وإضافة الرب إلى ضميرهم لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أربابًا، أي: إني آمنت بربكم الذي خلقكم. (فاسمعون) أي فاسمعوا قولي فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك. وقيل: مراده دعوتهم إلى الخير الذي اختاره لنفسه" (3). (1) التفسير الكبير 26/59 – 60. (2) البحر المحيط 7/329. (3) روح المعاني 22/227 – 228. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 116 إلى ص 120.