عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَّا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنقِذُونِ ﴿٢٣﴾ ﴾ [يس آية:٢٣]
{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)}
بعد أن ذكر من يستحق العبادة وسبب استحقاقه لها أفاد أنه ينبغي أن يوحده وأنه لا ينبغي له أن يتخذ إلهًا من دونه ولا معه أو يتخذ ذاتًا وسيلة لتقربه إليه.
أما إنه لا ينبغي له أن يتخذ إلهًا من دونه فذلك قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً} ولا أن يتخذ إلهًا معه لأن ما يتخذونهم معه لا يملكون ضرًا ولا نفعًا. فإذا أراده الرحمن بضر لا يملكون له شيئًا فهم إذن دونه فلا يصح أن يتخذوا معه آلهة.
ولا أن يتخذوا ذاتًا لتقربه إليه؛ لأنه ذكر أنه لا تغني شفاعتهم شيئًا فلا يصح على ذلك أن يتخذوا ذاتًا لتقربه إليه.
وبهذا يكون دعاهم إلى التوحيد الخالص من دون شركاء أو شفعاء أو وسطاء.
وهو وإن أنكر على نفسه أن يتخذ آلهة من دون الله يقصد بذلك عموم من يصل إليه الخطاب من الناس، فلا ينبغي أن يتخذ أحد إلهًا من دونه. وما ذكره بحق نفسه لا يخصه وحده وإنما يعم جميع المكلفين، فإنه قال: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} وهو لم يفطره وحده بل فطر المخلوقات جميعًا.
وقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} وهذا الأمر لا يخصه وحده بل إن أراد الله غيره بذلك فالأمر كذلك.
لقد أخرج هذا الكلام مخرج الاستفهام الإنكاري وليس مخرج الخبر. فإنه بعد أن ذكر ما ذكر قال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً} أي أيصح ذلك عقلًا؟ أيجوز اتخاذ غيره إلهًا؟.
ولا شك أن كل عاقل سيجيب قائلًا: لا، إنه لا يصح أن تتخذ إلهًا من دونه.
وهذا لا شك أقوى من الكلام التقريري الخبري الذي يقول: أنا لا أتخذ من دونه آلهة، وذلك لأنه كأنه قرار انفرادي رآه هو. في حين أن قوله: {} يستدعي إشراك الآخرين في الجواب واتخاذ القرار.
جاء في (التفسير الكبير): "ثم قال تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً} ليتم التوحيد... فقال: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ} إشارة إلى وجود الإله، وقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ} إشارة إلى نفي غيره فيتحقق معنى لا إله إلا الله. وفي الآية أيضًا لطائف:
(الأولى): ذكره على طريق الاستفهام فيه معنى وضوح الأمر. وذلك أن من أخبر عن شيء فقال مثلًا: (لا أتخذ) يصح من السامع أن يقول له: لم لا تتخذ؟ فيسأله عن السبب.
فإذا قال: (أأتخذ) يكون كلامه أنه مستغن عن بيان السبب الذي يطالب به عند الإخبار، كأنه يقول: استشرتك فدلني والمستشار يتفكر. فكأنه يقول: تفكر في الأمر تفهم من غير إخبار مني.
(الثانية): قوله: {مِنْ دُونِهِ} وهي لطيفة عجيبة، وبيانها هو أنه لما بين أنه يعبد الله بقوله: {الَّذِي فَطَرَنِي} بين أن من دونه لا تجوز عبادته...
(الثالثة): قوله (أأتخذ) إشارة إلى أن غيره ليس بإله لأن المتخذ لا يكون إله (1) (كذا)، ولهذا قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} {الجن: 3}، وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} {الإسراء: 111}؛ لأنه تعالى لا يكون له ولد حقيقة ولا يجوز... ولا يقال: قال الله تعالى: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} {المزمل: 9} في حق الله تعالى حيث قال: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}، نقول ذلك أمر متجدد" (2).
ونريد أن نذكر أمرًا بخصوص قوله تعالى: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا}. فإن الذي يبدو من الاستعمال في اللغة أنه إذ كان الشيء موجودًا أصلًا من غير انفكاك ولا اختيار فلا يقال: (اتخذته)، فلا يقال مثلًا: (اتخذت فلانًا أبًا) إذا كان أباه حقيقة. ولا يقال: (اتخذته أخًا) إذا كان أخاه حقيقة. وإنما يقال ذلك لما يصح فيه التخلي والترك والاختيار، كأن تقول: (اتخذت فلانًا صديقًا لي) لأنك مختار في اختيار الأصدقاء. وتقول: (اتخذته أخًا وصاحبًا) فيما أنت مختار فيه. ولا يصح أن تقول: (اتخذت فلانًا خالقًا)، أو اتخذت الكوكب خالقًا، ولا اتخذت الله خالقًا؛ لأنه هو الخالق وليس متخذًا لذلك، لكنك قد تقول: (اتخذته معبودًا) لأنك مختار في اتخاذ ما تعبد.
ونحوه قوله: {فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} فإن لك أن تختار الوكلاء وأن تتخذ من تشاء فاتخذ الله وكيلًا تفلح.
وقد تقول: إن الله وكيل على كل شيء، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} {هود: 12}، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} {الأنعام: 102}، و {الزمر: 62}.
فنقول: هذه وكالة قسرية وليست وكالة الاختيار والطاعة. ونظير ذلك العبودية، فإن العبودية لله قد تكون قسرية، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {مريم: 93}، وقوله: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} {الفرقان: 17}، وهذه العبودية ليست من الطاعة ولا يتعلق بها ثواب.
وقد تكون عبودية اختيارية وذلك بأن يختار المرء أن يكون عبدًا لله مطيعًا له، وهذه هي التي يتعلق بها الثواب، كما قال تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} {النساء: 172}، وقال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} {الإنسان: 6}.
ونحوه الألوهية والربوبية، فالله سبحانه هو إله الخلق كلهم وربهم شاءوا أم أبوا؛ قال تعالى: {وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} {الأنعام: 164}، و{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الفاتحة: 2}، وقال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} {البقرة: 163}، وقال {إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} {الأنعام: 19}، وقال: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {ص: 65}.
وهذه الربوبية والألوهية قسرية شاء الخلق أم أبوا ولا يترتب عليها ثواب. وإنما يترتب الثواب والعقاب على من اتخذه إلهًا وربًا أو اتخذ غيره كما قال تعالى: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً} {الأنعام: 74}، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} {الفرقان: 43}، {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} {التوبة: 31}.
فالاتخاذ أمر اختياري يفعله المتخذ وهو غير الأمر الكائن أصلاً من غير اتخاذ وذلك نحو (هذا ولدي)، و(هذا اتخذته ولدًا لي)، والله أعلم.
(1) كذا في المطبوع، والصواب: إلهًا.
(2) التفسير الكبير 26/57.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 98 إلى ص 102.
* * *
{إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ}
استعمل الفعل المضارع فعلًا للشرط فقال: {إِنْ يُرِدْنِ}، واستعمل الماضي في مكان آخر فقال: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} {الزمر: 38}.
وعند النحاة أن الماضي في الشرط يفيد الاستقبال، جاء في (التفسير الكبير): "قال ههنا: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ}، وقال في الزمر: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ} فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي هنالك واختيار صيغة المضارع ههنا، وذكر المريد باسم الرحمن هنا وذكر المريد باسم الله هناك؟.
نقول: أما الماضي والمستقبل فإن (إن) في الشرط تصير الماضي مستقبلًا، وذلك لأن المذكور ههنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله: (أأتخذ)، وقوله: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ}، والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله: (أفرأيتم)، وكذلك في قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} لكون المتقدم عليه مذكورًا بصيغة المستقبل وهو قوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ}، وقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ} والحكمة فيه أن الكفار كانوا يخوفون النبي بضر يصيبه من آلهتهم، فكأنه قال: صدر منكم التخويف وهذا ما سبق منكم. وههنا ابتداء كلام صدر من المؤمن للتقرير، والجواب ما كان يمكن صدوره منهم فافترق الأمران" (1).
والذي يترجح عندنا أن الفعل المضارع مع الشرط كثيرًا ما يفيد افتراض تكرر الحدث، بخلاف الفعل الماضي فإنه كثيرًا ما يفيد افتراض وقوع الحدث مرة (2)، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} {النساء: 93}، وقال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} {النساء: 92}، فجاء مع القتل العمد بالفعل المضارع لأنه يفترض فيه تكرر الحدث، إذ كلما سنحت للقاتل فرصة قتل مؤمنًا، بخلاف قتل الخطأ فإنه لا يفترض تكرره.
ونحو ذلك قوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} {المائدة: 17}، فجاء بفعل الإرادة ماضيًا {إِنْ أَرَادَ} لأن هذه الإرادة تكون مرة واحدة ولا تتكرر، فإنه إذا أهلكه فقد انتهى الأمر.
ونحوه قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} {البقرة: 223}، فإن هذا لا يتكرر، فإذا انفصلا فقد انتهى الأمر.
ونحوه قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} {الإسراء: 16}، وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} {الأحزاب: 50}، وهذه الإرادة لا تتكرر وإنما تكون مرة واحدة.
في حين قال: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} {آل عمران: 145}، فجاء بفعل الإرادة مضارعًا لأن إرادة الثواب تتكرر.
ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} {الأنفال: 62} فإن إرادة الخديعة تتكرر.
ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} {الأنفال: 71} فإن إرادة الكفار خيانة الرسول قد تتكرر فجاء بالفعل مضارعًا.
فنقول: إن استعمال الفعل المضارع في سورة (يس) في قوله تعالى:{ إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} إشارة إلى أنه كان يتوقع تكرر وقوع الضر عليه من قومه، وأنهم لا يكفون عن إلحاقه به ما دام بينهم.
وقد تقول: ولم قال ههنا: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} فأسند الإرادة إلى الرحمن، وقال في الزمر: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} {الزمر: 38} فأسند الإرادة إلى الله؟.
فنقول: إن القائل في سورة (يس) يتوقع وقوع الضرر عليه وتطاوله كما ذكرنا، فذكر اسم الرحمن كأنه يلوذ به ويعتصم، وهو بمثابة سؤاله الرحمة، بخلاف ما في الزمر فإنه ليس الأمر كذلك ولا يتوقع نحو هذا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه حسن ذكر اسم (الرحمن) مع الشفاعة في سورة (يس) فقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} لأن الشفيع إنما يستدر رحمة من يشفع عنده، والمتصف بالرحمة قد يقبل شفاعة من ليس له جاه كبير عنده، أما هؤلاء الآلهة فلا تنفع شفاعتهم حتى مع الرحمن، إذ ليس لهم جاه البتة. وهذا أبلغ في إسقاط وجاهة هؤلاء.
ثم من ناحية ثالثة أنه ورد اسم (الرحمن) في سورة (يس) أربع مرات، ولم يرد في سورة الزمر ولا مرة واحدة. وورد اسم (الله) في سورة الزمر تسعًا وخمسين مرة، وورد في سورة (يس) ثلاث مرات فقط، فناسب ذكر اسم (الله) في الزمر، و (الرحمن) في (يس).
وقد علل الفخر الرازي ذكر اسم (الرحمن) في (يس) واسم (الله) في الزمر بقوله: "وأما قوله هناك: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ} فنقول: قد ذكرنا أن الاسمين المختصين بواجب الوجود الله والرحمن؛ كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} {الإسراء: 110}، والله للهيبة والعظمة، والرحمن للرأفة والرحمة. وهناك وصف الله بالعزة والانتقام في قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} {الزمر: 37}، وذكر ما يدل على العظمة بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} {العنكبوت: 61} فذكر الاسد الدال على العظمة. وقال ههنا ما يدل على الرحمة بقوله: {الَّذِي فَطَرَنِي} فإنه نعمة هي شرط سائر النعم فقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ}" (3).
وقد تقول: لقد قال في سورة (يس): {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} .
وقال في الزمر: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} {الزمر: 38}.
فذكر الضر في (يس) ولم يذكر الرحمة، إذ لم يقل: (وإن يردني برحمة لا يمسكوا رحمته) في حين ذكر في الزمر الضر والرحمة، فقال: { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ .... أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} فما سبب ذاك؟
والجواب – والله أعلم – أن ذلك لأكثر من سبب:
منها أن صاحب (يس) كان يتوقع الضر من أهل قريته ولم يكن يتوقع منهم شيئًا من لين أو رحمة، بل ربما كان يتوقع القتل لأن الجو كان متأزمًا، كله تهديد ووعيد.وقد انتهى الأمر بقتله، فلا يناسب ذكر الرحمة.
ومن ذلك أن ذكر اسم (الرحمن) أغنى ههنا عن ذكر (وإن يردني برحمة) فإن الرحمن يرد الرحمة، وهو لا يريدها فقط وإنما يحققها؛ وإلا فليس برحمن، فاكتفى بذكر صفته عن أن يقول: (وإن يردني برحمة) بخلاف ما في الزمر، فإنه ذكر اسم (الله) ولم يذكر له وصفًا، فناسب ذلك أن يذكر الضر والرحمة تصريحًا.
وعلى هذا فقد ذكر الأمران في (يس) على نحو آخر يناسب المقام، والله أعلم.
وقد تقول: لقد قال في (يس): {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} فاستعمل ضمير الذكور العقلاء في (شفاعتهم) وفي (ينقذون).
وقال في سورة الزمر: {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} و{هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} بضمير الإناث، فما الفرق؟.
والجواب: أن ضمير الإناث يستعمل للإناث ويستعمل لجمع غير العاقل مذكرًا كان أو مؤنثًا، فنقول: (الحبال هن شاهقات) والجبال جمع جبل وهو مذكر غير عاقل، غير أننا نستعمل له ضمير الإناث. قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} {البقرة: 197}.
فقال في الأشهر: (فيهن) والأشهر جمع شهر، والشهر مذكر غير عاقل، فاستعمل لها ضمير الإناث.
فضمير الإناث يستعمل للإناث ولجمع غير العاقل مطلقًا.
وكذلك جمع المؤنث السالم، فإنه يستعمل جميعًا للمؤنث بشروطه، ويستعمل أيضًا لجمع المذكر غير العاقل اسمًا أو صفًا نحو (جبال شاهقات) و(شاهقات) وصف لمذكر غير عاقل، و(أنهار جاريات)، و(جاريات) وصف لأنهار مفردها (نهر) وهو مذكر غير عاقل.
والاسم المذكر غير العاقل قد يجمع جمع مؤنث سالماً إذا لم يسمع له جمع تكسير نحو حمامات جمع حمام، واصطبلات جمع اصطبل.
وأما ضمير جماعة الذكور نحو (هم) و(الواو) في نحو (يمشون) فهو خاص بجماعة الذكور العقلاء أو ما نزل منزلتهم.
وبعد بيان هذا الأمر نعود إلى الآيتين:
قال تعالى في الزمر: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} {الزمر: 38}.
ومن النظر في هذا الآية يتضح ما يأتي:
1- قال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فجعل آلهتهم لا تعقل ذلك أنه استعمل لها (ما) فقال: (ما تدعون)، و(ما) تستعمل في العربية لذات ما لا يعقل.
2- جاء بضمير الإناث (هن) فقال: {هَلْ هُنَّ} وهذا الضمير إما أن يكون للإناث أو يستعمل لجمع غير العاقل مذكرًا أو مؤنثًا كما ذكرت فجعلهم غير عقلاء، وهو متناسب مع (ما) التي هي لغير العاقل.
3- جاء بجمع المؤنث السالم وهو كما ذكرنا إما أن يكون للإناث أو لصفات الذكور غير العقلاء فجعلهم غير عقلاء.
4- هذه الآية نزلت في المجتمع الجاهلي والخطاب للرسول وقد قال تعالى فيهم: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} {النساء: 117}.
فذكر أن ما يدعون من دون الله إنما هي إناث.
وقد روي عن الحسن: "أنه كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان... وقيل: كان في كل صنم شيطانة" (4).
"وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم في بنات الله" (5).
وكانوا يسمون كثيرًا منها بأسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة (6).
فناسب التأنيث من كل جهة، ومن جهة أنها غير عاقلة، ومن جهة أن لها أسماء مؤنثة، أو يرون أنها إناث.
وقال في (يس): {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} .
فاستعمل ضمير العقلاء ذلك لأنه قال: {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ}، والشفيع لا بد أن يكون عاقلًا وإلا فكيف يشفع؟ ولذلك قال في الزمر: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ} {الزمر: 43}، فجاء بضمير جماعة الذكور للدلالة على أنه لا يكون الشفيع إلا عاقلًا.
ثم نفى الشفاعة مع عدم العقل فقال: {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ}.
فاستعمل ضمير العقلاء مع الشفاعة.
ثم قال: {وَلَا يُنْقِذُونِ}، والمنقذ لابد أن يكون عاقلًا أيضًا، وإلا فكيف ينقذ؟ ولذلك قال في سورة (يس): {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} {يس: 74 - 75}، فاستعمل ضمير جماعة العقلاء وهو قوله: (لا يستطيعون) و(هم) لأن الناصر لا بد أن يكون عاقلًا، وهو كالمنقذ.
وهذه الآية نظيرة الآية السابقة.
فناسب كل ضمير مكانه اللائق به.
وهناك أمر آخر في الآية وهو أنه قال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} فأدخل الباء على الضر ولم يقل: (إن يرد الرحمن بي ضرًا) وكلاهما تعبير فصيح، تقول: (أراد به رحمة) و(أراده برحمه). قال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} {الأحزاب: 17}، فأدخل الباء على ضمير المخاطبين، فما الفرق؟.
جاء في (التفسير الكبير): "قال {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} ولم يقل: (إن يرد الرحمن بي ضرًا)، وكذل قال تعالى: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}، ولم يقل: (إن أراد الله بي ضرًا)، نقول:
الفعل إذا كان متعديًا إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بحرف كاللازم يتعدى بحرف في قولهم: ذهب به، وخرج به. ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف ما هو أولى بوقوع الفعل عليه، ويجعل الآخر مفعولًا بحرف. فإذا قال القائل مثلا: كيف حال فلان؟ يقول اختصه الملك بالكرامة والنعمة.
فإذا قال كيف كرامة الملك؟ يقول: اختصها بزيد، فيجعل المسؤول عنه مفعولًا بغير حرف لأنه هو المقصود.
إذا علمت هذا فالمقصود فيما نحن فيه بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البؤس والرخاء، وليس الضر بمقصود بيانه، كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله. ويؤيد هذا قوله من قبل: {الَّذِي فَطَرَنِي} حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فكذلك جعلها مفعول الإرادة، وذكر الضر وقع تبعًا.
وكذا القول في قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}، المقصود بيان أنه يكون كما يريد الله، وليس الضر بخصوصه مقصودًا بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} {الزمر: 36}، يعني هو تحت إرادته، ويتأيد ما ذكرناه بالنظر في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا} {الأحزاب: 17}، حيث خالف هذا النظم وجعل المفعول من غير حرفٍ السوء وهو كالضر، والمفعول بحرف هو المكلف، وذلك لأن المقصود ذكر الضر للتخويف وكونهم محلًا له، وكيف لا وهم كفرة استحقوا العذاب بكفرهم؟ فجعل الضر مقصودًا بالذكر لزجرهم.
فإن قيل: فقد ذكر الله الرحمة أيضًا حيث قال: {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}.
نقول: المقصود ذلك ويدل عليه قوله تعالى من بعده: {وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} {النساء: 173}، وإنما ذكر الرحمة تتمة للأمر بالتقسيم الحاصر.
وكذلك إذا تأملت في قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} {الفتح: 11}، فإن الكلام أيضًا على الكفار، وذكر النفع وقع تبعًا لحصر الأمر بالتقسيم" (7).
والذي يبدو لي غير ذلك، فإن الذي يظهر من التعبير القرآني أن ما تتصل به الباء هو الذي عليه السياق وهو مدار الكلام وهو الأهم فيه.
قال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا}
فقد اتصلت الباء بضمير المخاطبين (بكم) لا بالسوء، والكلام يدور على المخاطبين والسياق عليهم، وذلك من الآية الثانية عشرة حتى الآية العشرين.
قال تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا} {الأحزاب: 12 - 20}.
فقد اتصلت الباء بضمير المخاطبين لأن الكلام يدور عليهم.
وقال: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} {الفتح: 11}.
وقد اتصلت الباء بضمير المخاطبين أيضًا، وذلك أن الكلام والسياق يدوران عليهم.
قال تعالى: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} {الفتح: 11 - 16}.
وقال: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} {الأنبياء: 70}، واتصلت الباء بضمير الغيبة (به) ولم تتصل بالكيد، والكلام على سيدنا إبراهيم عليه السلام وذلك في أكثر من عشرين آية (من الآية: 51 - 72).
في حين قال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} {الزمر: 38}.
فقد اتصلت الباء ههنا بالضر وبالرحمة ولم تتصل بالضمير فقد قال: { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ …. أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} ولم يقل: (إن أراد بي ضرًا أو أراد بي رحمة)، وذلك أن الاهتمام والعناية بالضر و الرحمة، ويدلك على ذلك أن عقب على ذلك بكشف الضر وإمساك الرحمة فقال: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} {الزمر: 38}.
والسياق إنما هو في ذلك والاهتمام به، فقد قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} {الزمر: 36}، فالكلام على المعتقدات لا على الأشخاص.
وقال: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} {يونس: 107}، فقد اتصلت الباء بالخير لا بضمير الخطاب فقال: {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ}، ولم يقل: (وإن يرد بك خيرًا) وذلك أن الكلام إنما هو في هذا الأمر والسياق عليه قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} {يونس: 107}.
فالكلام على الضر والخير وما يتعلق بكشفهما أو ردهما لا على الأشخاص ولذلك قال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} .
فليس أحد يكشف الضر إلا هو، ولا أحد يملك أن يرد خيره تعالى، ولذلك عقب بقوله: {فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.
وقد قال قبل هذه الآية: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} فالكلام في النفع والضر كما ترى وإيصالهما أو دفعهما.
وفي هذه السورة، أعني سورة (يس)، وصل الباء بالضر فقال: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} ولم يقل: (إن يرد الرحمن ضرًا) وذلك أن الكلام على الضر وهو مدار الاهتمام، ولذلك عقب بكشف الضر وإزالته فقال: {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} أي لا يدفعون الضر عني ولا ينقذونني منه.
فاتضح بذلك أن الباء تتصل بما هو أهم في السياق وعليه الكلام، والله أعلم.
(1) التفسير الكبير 26/59.
(2) انظر معاني النحو 4/66.
(3) التفسير الكبير 26/59.
(4) روح المعاني 5/148، الكشاف 1/424.
(5) الكشاف 1/424.
(6) فتح القدير 1/478.
(7) التفسير الكبير 26/58.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 102 إلى ص 114.
* * *
{لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ}
بين أن آلهتهم ليس لها جاه ولا قدرة.
فكونها لا تنفع شفاعتها شيئًا معناه أنه ليس لها جاه.
وكونها لا تنقذ من يعبدها ويلتجئ إليها معناه أنها ليس لها قدرة.
فكيف يعبدون آلهة هذه صفتها؟!.
ثم إنه أنها بمجموعها ليس لها مكانة ولا جاه، وإنها بمجموعها ليس لها قدرة، فلو أن آلهتهن جميعًا شفعت عند الله لم تغن شفاعتهم شيئًا.
ولو أنها جميعها أرادت أن تنقذه لم تستطع.
فما أتفه وما أضعف هذه الآلهة!
لقد قدم الشفاعة على القدرة لأن هذا هو الترتيب الطبيعي في الحياة، فإن من استعان بشخص على آخر يشفع أولًا عنده، فإن لم يجد ذلك نفعًا لجأ إلى القوة، وليس العكس.
جاء في (التفسير الكبير): "ثم قال: {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} على ترتيب ما يقع من العقلاء؛ وذلك لأن من يريد دفع الضر عن شخص أضر به شخص يدفع بالوجه الأحسن فيشفع أولًا، فإن قبله وإلا يدفع، فقال: {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ} ولا يقدرون على إنقاذي بوجه من الوجوه" (1).
وجاء في (روح المعاني) : "وهو ترق من الأدنى إلى الأعلى، بدأ أولًا بنفي الجاه، وذكر ثانيًا انتفاء القدرة وعبر عنه بانتفاء الإنقاذ لأنه نتيجة" (2).
فاستبان من هذه الآيات أن الله مستحق للعبادة من كل وجه:
1- أنه فطر الخلق.
2- وأنه يرسل الرسل إليهم ليرشدوهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم.
3- إليه المرجع والمصير فيعاقب المسيء ويكافئ المحسن.
4- أنه رحيم بعباده: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ}
5- أنه قوي مقتدر ليس لقدرته حدود.
6- وأن ما يدعون من دونه ليس لهم جاه وليس لهم قدرة وإن اجتمعوا.
جاء في (التفسير الكبير): "وفي هذه الآيات حصل بيان أن الله تعالى معبود من كل وجه:
إن كان نظرًا إلى جانبه فهو فاطر ورب مالك، يستحق العبادة سواء أحسن بعد ذلك أو لم يحسن.
وإن كان نظرًا إلى إحسانه فهو رحمن.
وإن كان نظرًا إلى الخوف فهو يدفع ضره.
وحصل بيان أن غيره لا يصلح أن يعبد بوجه من الوجوه، فإن أدنى مراتبه أن يعد ذلك ليوم كريهة، وغير الله لا يدفع شيئًا إلا إذا أراد الله، وإن يرد فلا حاجة إلى دافع" (3).
(1) التفسير الكبير 26/59.
(2) روح المعاني 22/227.
(3) التفسير الكبير 26/59.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 114 إلى ص 116.