عرض وقفة أسرار بلاغية
{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)}
بعد أن بالغ أصحاب القرية في تكذيبهم وردهم ردًا غير جميل لم يتركهم رسل الله ولم يرحلوا عنهم، وإنما أقسموا على صدقهم واستمروا على إبلاغهم دعوة ربهم قائلين: {رَبُّنَا يَعْلَمُ...} وفي هذا توجيه للدعاة أن لا يسأموا إذا جوبهوا بما يكرهون أو ردوا ردًا غير جميل أو اتهموا باتهامات باطلة، بل عليهم أن يعيدوا النصح والتبليغ.
وقولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} يجري عند العرب مجرى اليمين ويجاب بما يجاب به القسم، فقولك: (علم الله) و(ربنا يعلم) وما إلى ذلك هو نوع من القسم في كلام العرب، ولذا أجيب بما يجاب به القسم وهو الجملة الاسمية المؤكدة بإن واللام.
واختيار هذا التعبير أنسب شيء هنا، فإنه إضافة إلى القسم الذي فيه فإنهم نسبوا العلم إلى الله فقالوا: (ربنا يعلم ذلك) فإنهم أرسلوا بأمره وبعلمه. وهو ههنا أبلغ من مجرد القسم بأن نقول (والله) أو (وربنا) فإن أصحاب القرية قالوا: إن الرحمن لم ينزل شيئًا وإنكم تكذبون فيما ادعيتم به. فرد عليهم الرسل بأن ربنا يعلم صدقنا وأننا مرسلون إليكم.
وقيل: إن من قال: (يعلم الله ذلك) وهو غير صادق فيما يقول فقد كفر؛ لأنه نسب إلى الله الجهل، بخلاف اليمين الكاذبة.
واختيار (الرب) مع الرسالة أنسب شيء، فإن الرب هو المربي والهادي. والهداية هي المقصودة من الرسالة، ولذلك كثيرًا ما يقترن الإرسال بالرب وذلك نحو قوله تعالى: {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} {طه: 134}، وقوله: {رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا} {القصص: 47}، وقوله: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} {الأعراف: 79}، وقوله: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الزخرف: 46}.
وإضافته إلى ضمير المتكلمين (ربنا) يعني أن ربهم الذي خلقهم وله كمال الصفات هو الذي أرسلهم وأيدهم بالمعجزات. ولو قالوا: (ربكم يعلم...) لاحتمل أن يقولوا لهم: إن ربنا لا يرسل الرسل. ثم إنهم اتخذوا أربابًا لا تسمع ولا تبصر ولا تفقه فكيف ترسل الرسل؟.
ثم إن ذلك يعني أن ربهم هو الذي أرسلهم إلى أهل القرية لأنه ربهم أيضًا، ولو لم يكن ربهم لم يعنه أمرهم. فإضافة الرب إلى ضمير المتكلمين له أكثر من مناسبة ودلالة.
وتقديم الرب على الفعل يفيد التوكيد والتقوية.
وتقديم الجار والمجرور (إليكم) يفيد التخصيص، أي إنا أرسلنا إليكم على وجه الخصوص لنبلغكم رسالة ربنا.
وقال ههنا: (لمرسلون) باللام، وقال قبلها: (مرسلون بلا لام، وذلك زيادة في التوكيد لزيادة الإنكار. فقد أكد العبارة الأولى بإن بعد التكذيب، فلما زاد التكذيب والإنكار بثلاث جمل كل منها غاية في التكذيب والإنكار زاد في التأكيد. فقد قال في المرة الأولى: {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} وفي المرة الأخرى: {رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ}. فأكد بالقسم وهو قوله: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} وبالجملة الاسمية وهو تقديم (ربنا) على الفعل (يعلم) وبين واللام. فكان كل تعبير هو المناسب للمقام.
جاء في (التفسير الكبير): في قوله تعالى: {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ....} إنه "إشارة إلى أنهم بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا، بل أعادوا ذلك الهم وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين و{قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} وأكدوه باللام لأن (يعلم الله) يجري مجرى القسم. لأن من يقول: (يعلم الله) فيما لا يكون فقد نسب الله إلى الجهل وهو سبب العقاب، كما أن الحنث سببه" (1).
وجاء في (روح المعاني): "استشهدوا بعلم الله تعالى وهو جارٍ مجرى القسم في التأكيد والجواب بما يجاب به. وذكر أن من استشهد به كاذبًا يكفر ولا كذلك القسم على كذب. وفيه تحذيرهم معارضة علم الله تعالى.
وفي اختيار عنوان الربوبية رمز إلى حكمة الإرسال، كما رمز الكفرة إلى ما ينافيه بزعمهم. وإضافة (رب) إلى ضمير الرسل لا يأبى ذلك، ويجوز أن يكون اختياره لأنه أوفق بالحال التي هم فيها من إظهار المعجز على أيديهم، فكأنهم قالوا: ناصرنا بالمعجزات يعلم إنا إليكم المرسلون.
وتقديم المسند إليه لتقوية الحكم أو للحصر، أي ربنا يعلم لا أنتم الانتفاء النظر في الآيات عنكم...
وجاء كلام الرسل ثانيًا في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جدًا حيث إنه أتوا بثلاث جمل وكل منها دال على شدة الإنكار كما لا يخفى على من له أدنى تأمل" (2).
(1) التفسير الكبير 26/52.
(2) روح المعاني 22/222 وانظر الكشاف 2/584.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 78 إلى ص 81.