عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ ﴿١٥﴾    [يس   آية:١٥]
{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15)} {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي فكيف أختصكم الله بالوحي دوننا، ونحن بشر وأنتم بشر؟ وفي هذا القول تكذيب لهم وإنكار للنبوات على العموم. وقد فصل ما تضمنته هذه العبارة من تكذيب للمرسلين وإنكار للنبوات بقوله بعد: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} فإن هذا القول يعني إنكار النبوات، وبقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} وهو تكذيب لهم خاصة. فذكر الأمر العام الذي يتضمن الأمرين، ثم ذكر كل أمر مما تضمنته العبارة وهذا الإنكار شأن كثير من الأمم السالفة، فإنهم أنكروا أن ينزل الله على بشر من شيء. جاء في (تفسير ابن كثير) في قوله: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}: "أي فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر، فلم لا أوحي إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة. وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} {التغابن: 6}، أي استعجبوا من ذلك وأنكروه، وقوله تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} {إبراهيم: 10}، وقوله تعالى حكاية عنهم في قوله جل وعلا: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} {المؤمنون: 34}، وقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} {الإسراء: 94} (۱). وقد تقول: ولم لم يكتف بقوله: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وقد ذكرت أنه يتضمن معنى ما بعده؟. والجواب: أنه ليس المقصود من قولهم هذا إثبات الرسل، فإن هذا الم ينازعهم فيه أحد، وإنما المقصود إنكار النبوات وتكذيبهم، فأوضحوا المقصود وأبانوا عن معتقدهم. ودفعًا لحجة الرسل الذين سيحتجون عليهم بقولهم: نعم نحن بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده فيختصه بالرسالة، وإن كوننا بشرًا لا يمنع من أن يوحي إلينا ربنا، وما إلى ذلك من الحجج التي تبين أنه لا مانع من أن يكون البشر رسولًا، وأنه لو أرسل ربنا ملكًا لجعله رجلًا ولألتبس عليهم الأمر أيضًا، فأبانوا عن معتقدهم بقولهم: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ}. ثم بينوا رأيهم في هؤلاء الرسل فقالوا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}. وهذه العبارة الأخيرة تعني تكذيب الرسل وعدم الإيمان لهم حتى لو كان الرحمن أنزل شيئًا؛ لأنهم كاذبون فيما يرون. {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} هذا القول يعني أنهم يؤمنون بالله وينكرون النبوات. وهذا شأن كثير من المجتمعات البشرية التي حكي عنها في القرآن نحو قوله: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} {فصلت: 14}، وقوله: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} {الإسراء: 94}، ومثلهم قوم سيدنا محمد  فإنهم يؤمنون بالله وينكرون النبوات. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {العنكبوت: 61}. وقال: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} {الأنبياء: 3}. وقال: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} {ق: 2}. جاء في (روح المعاني): "وظاهر هذا القول يقتضي إقرارهم بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام" (2). قال الفخر الرازي: "وقوله: (الرحمن) إشارة إلى الرد عليهم؛ لأن الله لما كان رحمن الدنيا والإرسال رحمة فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن؟ فقال: إنهم قالوا: ما أنزل الرحمن شيئًا، وكيف لا ينزل الرحمن مع كونه رحمن شيئًا، هو الرحمة الكاملة؟" (3). وقد تقول: ولم قال ههنا: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} فأسند الفعل إلى الرحمن، وقال في سورة الملك: {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} {الملك: 9}. وفي سورة الأنعام: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} {الأنعام: 91} بإسناد الفعل إلى الله؟. فنقول: إن كل تعبير هو الأنسب في مكانه. فأما سورة الملك فإنه يشيع فيها ذكر العذاب ومعاقبة الكفار، فقد ذكر فيها مشهدًا من مشاهد الذين كفروا في النار وسؤالهم عن النذر التي جاءتهم وذلك قوله: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} {الملك: 5 - 11}. ثم حذر عباده من عقوبته وبطشه في الدنيا وألا يأمنوا عذابه من فوقهم أو من تحت أرجلهم، وأن يعتبروا بما فعله ربنا في الأقوام الهالكة {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} {الملك: 16 – 18}. ثم حذرهم مرة أخرى وهددهم بقوله: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} {الملك: 20 – 21}. وعاد مرة أخرى فذكر إنكار الكفار ليوم النشور واستبعادهم له وحذرهم من عقوبات رب العالمين في الدنيا والآخرة فقال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} {الملك: 25 – 30}. وإزاء كل هذا التحذير والتخويف وذكر مشاهد العذاب لم يذكر بخصوص المؤمنين وجزائهم إلا آية واحدة وهي قوله: {إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} {الملك: 12}. فلا يناسب إزاء كل هذا التهديد والتحذير للكافرين وما أعده الله لعذابهم في جهنم أن يقرنه باسم الرحمن. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن القائلين لهذا القول إنما هم في أطباق النيران، وأنهم ألقوا فيها فوجًا بعد فوج وقد اشتد غضب الله عليهم ولم تدركهم رحمته فلا يناسب ذكر الرحمن هنا أيضًا. ثم إن الله جعل العذاب بمقابل الرحمة فقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} {الحجر: 49 – 50}، ولما كان المشهد مشهد العذاب كان ذلك في مقابل الرحمة، فلا يناسب هذا العذاب ذكر الرحمة، وبخاصة أن هؤلاء كفروا بربهم فلا ترجي لهم رحمة ولا ينالهم من اسم الرحمن نصيب. ومن ناحية أخرى أن القائلين في سورة (يس) إنما هم في الدنيا وهم يتقلبون في نعم الله ورحمته، أما القائلون في سورة الملك فإنما هم في جهنم وقد يئسوا من رحمته سبحانه، فناسب كل تعبير موطنه. وأما سورة الأنعام فإنها يشيع فيها التحذير والتهديد والتوعد وليس فيها مشهد من مشاهد الجنة، وإنما فيها صور غير قليلة من مشاهد النار. كما أن السورة لم يرد فيها اسم (الرحمن) على طولها، في حين ورد فيها اسم (الله) تعالى (۸۷) سبعا وثمانين مرة. فناسب كل تعبير مكانه. {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} لقد واجهوهم بالتكذيب صراحة بعد أن ذكروا ذلك ضمنًا بقولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، وقولهم: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} وكان النفي والإثبات بما وإلا في قوله: {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} وههنا بان وإلا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}. ذلك أن (إن) أقوى في النفي من (ما) فوضع كل حرف في الموضع الذي يقتضيه، ذلك أن قولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} غير منكور وهو معلوم للجميع. أما قولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} فهو موضوع النزاع، فإنه الوصف الذي يلصقه أهل القرية بهم ويدفعه المرسلون عن أنفسهم. فإن كونهم بشرًا لا يحتاج إلى إثبات أو دليل، بخلاف إثبات الكذب. وأهل القرية لم يذكروا بشريتهم إلا ليصلوا إلى تكذيبهم، فإن الغرض من قولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} ليس إثبات البشرية لهم وإنما هو إثبات الكذب عليهم، فناسب ذكر أقوى الحرفين فيما فيه قوة إنكار ويحتاج إلى إثبات. (1) تفسير ابن كثير 3/567. (2) روح المعاني 22/221. (3) التفسير الكبير 26/52. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 73 إلى ص 78.