عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ}
{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا}
يحتمل هذا التعبير معنيين:
المعنى الأول: أن المقصود اضرب لأجلهم مثلاً، أي بينه لهم واذكره لهم، وقص عليهم قصة أصحاب القرية ليتعظوا وليعلموا أنك لست بدعًا من الرسل، وإنما أرسل قبلك رسل وأنذروا قومهم وأن موقفهم من رسلهم كان التكذيب وإنكار الرسالات وأنهم آذوا رسلهم وعذبوهم فأهلكهم الله لعل قومك يتعظون.
والمعنى الآخر: أن المقصود مثل لنفسك حال قومك بأصحاب القرية واجعلهم مثلًا لهم، أي شبه حالهم بحال أصحاب القرية، فإن حال قومك شبيه بحال أصحاب القرية، وإن مثلهم كمثلهم، كما تقول مخاطبًا شخصًا: أنا أشبه حالك بحال فلان إذ فعل كذا وكذا. أو تقول لشخص: أنا أضرب لزيد مثلًا خالدًا فإن كليهما قد خسر في تجارته، أي اجعله شبيهًا به.
وعلى كلا هذين المعنيين يرتبط المثل بما قبله أحسن ارتباط.
فإنه على المعنى الأول: أي أن تضرب لهم المثل وتبينه لهم، فإنه يقول له: بين لهم شأن أصحاب القرية وموقفهم من رسلهم فإنهم مثلهم في الاعتقاد والتكذيب، وستكون عاقبتهم مثلهم إن أصروا على كفرهم وعنادهم لعلهم يتعظون ويرعوون.
وعلى المعنى الثاني: يكون المقصود أن قومك ليسوا بدعًا من الأقوام، فهناك أقوام مثلهم في التعنت والكفر، وأنه سواء عليهم الإنذار وعدمه، وأنه حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، وأنت لست وحدك تلاقي من العنت والإيذاء والتكذيب ما تلاقي، فهؤلاء أصحاب القرية مثل قومك في موقفهم وعنادهم وإيذائهم رسلهم، فقد أرسل إليهم ثلاثة رسل فكذبوهم وآذوهم فتصبر وتأس بهم. وفي ذلك تصبير له وتأسية فيكون ضرب المثل له .
والمعنيان مرادان مرتبطان بما قبلهما أجل ارتباط وأحسنه.
جاء في (التفسير الكبير) في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا}: "وفيه وجهان. والترتيب ظاهر على الوجهين.
الوجه الأول: هو أن يكون المعنى: واضرب لأجلهم مثلًا.
والثاني: أن يكون المعنى: واضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلًا.
أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية.
وعلى الأول نقول: لما قال الله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وقال: (لتنذر)، قال: قل لهم (ما كنت بدعًا من الرسل) بل قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة.
وعلى الثاني نقول: لما قال الله تعالى إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه الصلاة والسلام: فلا تأس واضرب لنفسك ولقومك مثلًا، أي مثل لهم عند نفسك مثلًا حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا، وصبر الرسل على القتل والإيذاء، وأنت جئتهم واحدًا وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا قرية وأنت بعثت إلى العالم" (1).
وجاء في (روح المعاني): "فالمعنى على الأول: اجعل أصحاب القرية مثلًا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على التكذيب، أي طبق حالهم بحالهم على أن (مثلًا) مفعول ثان لـ (اضرب)، و(أصحاب القرية) مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه.
وعلى الثاني: أذكر وبين لهم قصة هي في الغرابة كالمثل. وقوله سبحانه: {أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} بتقدير مضاف، أي مثل أصحاب القرية" (2).
وقال: {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} ولم يقل: (إذ جاءهم) لأنه أراد أنهم أتوهم في مكانهم لينذروهم. ولو قال: (إذ جاءهم) لم يفد أنهم أتوهم إلى مكانهم، بل يحتمل أنهم كانوا في مكان ما فأتاهم الرسل إليه. فقد يجتمع أهل قرية في مدينة ما ويأتيهم شخص إلى مكان اجتماعهم فيقال: (جاء أهل القرية فلان وكلمهم) ولم يفد ذلك أنه ذهب إلى قريتهم. بخلاف قوله: (جاءها) فإنه يفيد أنهم ذهبوا إليهم في دارهم ليبلغوهم دعوة ربهم وينذروهم، وفي هذا من الاهتمام بأمر التبليغ ما فيه.
جاء في (روح المعاني): "وقيل: {إِذْ جَاءَهَا} دون ( إذ جاءهم) إشارة إلى أن المرسلين أتوهم في مقرهم" (3).
وقال: (جاءها) دون (أتاها) ذلك أن المجيء يكون لما فيه مشقة ولما هو أصعب من الإتيان (4). ويبدو أنه كان في المجيء إلى أهل القرية وتبليغهم مشقة وإيذاء وتهديد فاختار المجيء على الإتيان. ولذا قال تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} {الفرقان: 40}، لأنه كان إتيانًا سهلًا وذلك أنهم مروا بها وهم في طريقهم. وقال: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} {الكهف: 77}، لأن إتيانها ودخولها كان ميسرًا ولم يجدوا من أهلها مساءة أو مشقة فاستعمل (أتيًا) دون (جاءًا).
(1) التفسير الكبير 26/50.
(2) روح المعاني 22/220.
(3) روح المعاني 22/220.
(4) انظر المفردات في غريب القرآن 6 و102 وانظر كتاب "لمسات بيانية" (قصة موسى في سورتي النمل والقصص).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 67 إلى ص 70