عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴿١٢﴾ ﴾ [يس آية:١٢]
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)}
* * *
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى}
قالوا: إن أصول الإيمان ثلاثة:
التوحيد والرسالة والحشر (1)، وقد ذكرها كلها في هذه الآيات. فإن الرسالة تقتضي مرسلًا وهذا يدل على التوحيد وقد نص على ذلك قوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} .
وقد ذكر الرسالة بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِين....} .
وقوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} يدل على الحشر.
وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح، ذلك أن عاقبة الإنذار والتبشير اللذين ذكرهما قبل هذه الآية بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ....} وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} إنما تكون في الحياة بعد الموت، فكان ذكرها ترغيبًا وترهيبًا وهو أنسب شيء.
جاء في (التفسير الكبير): "في الترتيب وجوه:
أحدها: أن الله تعالى لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمنًا مسلمًا ذكر أصلًا آخر وهو الحشر.
وثانيها: وهو أن الله تعالى لما ذكر الإنذار والبشارة بقوله: {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال: إن لم ير في الدنيا فالله يحيي الموتى ويجزي المنذرين ويجزي المبشرين.
وثالثها: أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى" (2).
وجاء في (روح المعاني): "{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى} إلخ تذليل عام للفريقين المصممين على الكفر والمشفقين بالإنذار ترهيبًا وترغيبًا ووعيدًا ووعدًا" (3).
وقد أكد الضمير المتقدم بـ (إن) مع ذكر ضمير الفصل (نحن) لإفادة القصر وللتقوية، ذلك أن الله وحده هو الذي يحيي الموتى لا غيره ولا يشاركه في هذا أحد فقدم الضمير لذلك، وأعني الضمير المؤكد بـ (إن). وكان الأصل أن يقال من غير توكيد: نحن نحيي الموتى. ولكنه أكد الضمير بـ (إن) وجاء بضمير الفضل توكيدًا وتقوية، ذلك أن الكفار لا يقرون بالحشر ولا يؤمنون بالحياة بعد الموت وكانوا يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} {الجاثية: 24}. فأكد هذا الحكم بـ (إن) وبضمير الفصل، فأفاد هذا التعبير حصرًا وتوكيدًا.
جاء في (روح المعاني): "وتكرير الضمير لإفادة الحصر أو للتقوية... وضمير العظمة للإشارة إلى جلالة الفعل. والتأكيد للاعتناء بأمر الخبر أو لرد الإنكار، فإن الكفرة كانوا يقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} {المؤمنون: 37}، أي إنا نحن نحيي الأموات جميعًا ببعثهم يوم القيامة" (4).
وقد تقول: ولم لم يؤكد باللام أيضًا كما فعل في موطن آخر، فقد قال في سورة الحجر: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} {الحجر: 23}؟
والجواب: أن كل موطن يقتضي ما ذكر.
فإنه ذكر في سورة الحجر من مظاهر قدرته وفصل فيها ما لم يذكره في سورة (يس). فقد قال في سورة الحجر:
{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} {الحجر: 16 – 23}.
في حين لم يذكر شيئًا من ذلك في سورة (يس)، فاقتضى ذلك أن يذكر اللام توكيدّا ومناسبة لمقام التفصيل. فناسب الإيجاز الإيجاز، والتفصيل التفصيل.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه فصل في ذكر الحشر في سورة الحجر ما لم يفصله في سورة (يس). فقد قال في الحجر: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}.
في حين لم يزد في سورة (يس) على قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، ثم يتنقل إلى موضوع آخر.
فناسب مقام الحشر وذكره بصورة أوسع مما في (يس) أن يزيد في توكيده.
ومن ناحية ثالثة: أن الخطاب في سورة يس قبل وبعد الآية للرسول. ويبدأ ذلك بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) …. لِتُنْذِرَ قَوْمًا ..... وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ .... إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ .... فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} ثم تأتي الآية بعدها: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا...}
في حين أن الخطاب في الحجر لعموم الخلق كما هو ظاهر، ولا شك أن عموم الخلق بهم حاجة إلى تأكيد الحشر أكثر من الرسول ، فناسب ذلك الزيادة في التأكيد في آية الحجر من كل وجه، والله أعلم.
(1) انظر التفسير الكبير 26/48، البحر المحيط 7/325.
(2) التفسير الكبير 26/48.
(3) روح المعاني 22/218.
(4) روح المعاني 22/218.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 55 إلى ص 58.
* * *
{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ}
أي نكتب ما قدموا من الأعمال الصالحة وغيرها.
(وآثارهم) أي ما أبقوه بعدهم من أعمال البر أو غيرها من أعمال السوء. فإن الإنسان قد يعمل عملًا فيه فائدة للمسلمين يبقي بعده كتأليف كتاب، أو بناء مسجد، أو تأسيس مدرسة تعلم الناس أمور دينهم، أو تأسيس جماعة تدعو إلى الله، أو سن سنة حسنة فتكتب له حسنات بقدر ما ينتفع بها حيث انتفع بها.
أو بالعكس فإنه قد يعمل عملًا فيه إضرار بالمسلمين من سن مظلمة، أو ابتدع بدعة سيئة، أو نشر أفكار ضارة بالمسلمين، أو معادية للإسلام، أو إظهار معصية، وما إلى ذلك من أعمال السوء، فإنه تكتب عليه أوزار ذلك بقدر ما أحدثت من أضرار حيث أضرت. فإنه ليست الأعمال وحدها هي التي تكتب بل تكتب أثار تلك الأعمال من خير أو شر. قال : (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا)
وجاء في (الكشاف): "{وَنَكْتُبُ مَا} أسلفوا من الأعمال الصالحة وغيرها، وما هلكوا عنه من أثر حسن كعلم علموه أو كتاب صنفوه أو حبيس حبسوه أو بناء بنوه من مسجد أو رباط أو قنطرة أو نحو ذلك، أو سيء كوظيفة وظفها بعض الظلام على المسلمين، وسكة أحدث فيها تخسيرهم، وشيء أحدث فيه صد عن ذكر الله من ألحان وملاه، وكذلك كل سنة حسنة أو سيئة يستن بها. ونحوه قوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} {القيامة: 13}، أي قدم من أعماله وأخر من أثاره. وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد... وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلًا شيئًا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح" (1).
وجاء في (روح المعاني): "{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} ما أسلفوه من الأعمال الصالحة والطالحة، (وأثارهم) التي أبقوها بعدهم من الحسنات كعلم علموه... وغير ذلك من وجوه البر، ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان... وغير ذلك من الشرور التي أحدثوها وسنوها بعدهم للمفسدين.
أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبدالله البجلي قال: قال رسول الله : "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا. ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا، ثم تلا {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ}" (2).
وقد تقول: لقد قدم الله (إحياء الموتى) على كتابة ما قدموا وآثارهم فقال: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} مع أن كتابة ما قدموا وآثارهم قبل إحياء الموتى فلم ذاك؟.
فنقول إن التقديم والتأخير لا يكون دائمًا مبنيًا على السبق في الزمان أو على الأشرف وإنما هو مبنى على العناية والاهتمام، وهذه تختلف بحسب السياق والمقام، فقد يقدم المتأخر أحيانًا أو بالعكس؛ ولذا نجد في القرآن تقديم الركوع على السجود مرة وتقديم السجود على الركوع مرة أخرى، وتقديم الحياة على الموت مرة وتقديم الموت على الحياة مرة أخرى، نجد تقديم المتقدم في الزمن مرة وتقديم المتأخر مرة أخرى، قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} {النساء: 163}.
فقدم عيسى على أيوب ويونس وغيرهما ممن ذكر، وهو بعدهم جميعًا. وذكر سليمان قبل أبيه داود. فليس التقديم والتأخير قائمًا على السبق في الزمان إذن؛ وإنما مداره على العناية والاهتمام كما ذكرت. وأوجه العناية والاهتمام تختلف بحسب السياق.
وهنا قدم الإحياء على الكتابة لأنه أهم من عدة أوجه:
منها: أنه المناسب لما قبله من الإنذار والتبشير، فإن ذلك يكون في الحياة بعد الموت.
ومنها: أن كتابة ما قدموا من الأعمال إنما هي لما بعد الموت، وإلا فلا قيمة للكتابة، فقدم الأهم لذلك.
ثم إنه رتب المذكورات بحسب الأهمية، فإن أهم شيء فيما ذكر هو الإحياء بعد الموت، ثم كتابة الأعمال التي تعرض على صاحبها في الحياة الثانية، ثم كتابة الآثار وهي مستندة إلى ما قدم من الأعمال. فما قدم من العمل هو أساس كتابة الآثار.
ثم إنه قدم الأهم من ناحية أخرى وهو ما لا يستطيع فعله إلا الله وهو إحياء الموتى، ولذا جاء به بأسلوب القصر المؤكد ليدل على أنه لا يفعله إلا الله. وأما الكتابة فإنه يمكن أن يفعلها المخلوقون وإن لم تكن بنفس الدرجة من الدقة والإحاطة، ولذا قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} ولم يقل: (وإنا نحن نكتب ما قدموا).
ثم من ناحية أخرى قدم فعل الله على ما يفعله غيره، والإحياء فعل الله. وأما الكتابة فهي فعل الملائكة الموكلين بها بأمره كما أخبر ربنا {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} {الزخرف: 80}، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} {ق: 18}.
ثم إنه قدم إحياء الموتى لأن السورة مبنية على ذلك، وأن جوها يشيع فيه ذكر الحياة بعد الموت. قال تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} {يس: 32}، وهذا في الحياة الأخرى.
وقال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} {يس: 33}.
وهذا إحياء بعد الموت.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {يس: 48}، أي: الحشر.
وقال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} {يس: 51 - 53}.
ثم ذكر مشهدًا من مشاهد الحياة الآخرة في الجنة ومشهدًا آخر في النار.
وتختم السورة بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}.
فالسورة يشيع فيها ذكر الحياة بعد الموت، فناسب تقديمه على الكتابة من كل وجه.
جاء في (التفسير الكبير): "الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حيث قال: (نحيي ونكتب)، ولم يقل: (نكتب ما قدموا ونحييهم)؟ نقول: الكتابة معظمة لأمر الإحياء، لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم، والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياء وإعادة لا يبقى لها أثر أصلاً. فالإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره. فلهذا قدم الإحياء، ولأنه تعالى لما قال: (إنا نحن) وذلك يفيد العظمة والجبروت والإحياء عظيم يختص بالله والكتابة دونه، فقرن بالتعريف الأمر العظيم وذكر ما يعظم ذلك العظيم" (3).
وقال: (نكتب) ولم يقل: (نعلم) لغرض الاهتمام بها وتوثيقها وإطلاع صاحبها عليها بصغيرها وكبيرها. فإن الإنسان قد يعلم أشياء ولا يكتبها، فإن كانت مهمة دونها.
وقال: (أحصيناه) ولم يكتف بالكتابة؛ لأن الكتابة وحدها قد لا تكون كافية، فإن كتبت أشياء ولم تحصها فربما ضاعت أو تلفت، فإن الإحصاء يحدد عدد المكتوب فلا يضيع منه شيء. ولم يكتف بإحصائها بل جعلها في موضع واحد وهو الإمام المبين وهو اللوح المحفوظ - كما قيل - وسمي إمامًا لأن الملائكة تتبعه وتنفذ ما فيه فهو الإمام لها.
وقال: (نكتب) بالمضارع و(أحصيناه) بالماضي، لأن الإحصاء في الإمام المبين سابق على الكتابة، فإن الكتابة تكون لما يفعله المكلفون وهي متأخرة عما كتبه الله في اللوح، فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين.
جاء في التفسير الكبير): "وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} يحتمل وجوها:
أحدها: أن يكون ذلك بيانًا لكون ما قدموا وآثارهم أمرًا مكتوبًا عليهم لا يبدل فإن القلم جف...
وثانيها: أن يكون ذلك مؤكدًا لمعنى قوله: (ونكتب) لأن من يكتب شيئًا في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال: نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين. وهذا كقوله تعالى: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى}... وقوله: (أحصيناه) أبلغ من (كتبناه) لأن من كتب شيئًا مفرقًا يحتاج إلى جمع عدده، فقال: هو محصى فيه. وسمي الكتاب إمامًا لأن الملائكة يتبعونه، فما كتب فيه من أجل ورزق وإحياء وإماتة اتبعوه. وقيل: هو اللوح المحفوظ" (4).
وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ} بنصب (كل) ولم يقل: (وكل شيء) بالرفع، ذلك أن المعنى بنصب (كل) أننا أحصينا كل شيء في كتاب مبين.
وأما بالرفع فيحتمل معنيين:
المعنى الأول: وهو ما ذكرناه بالنصب فيكون (كل) مبتدأ، وجملة (أحصيناه) خبرًا له.
والمعنى الآخر: أن تكون جملة (أحصيناه) نعتًا لشيء، والخبر (في إمام مبين) فيكون المعنى (أننا كل شيء أحصيناه) (في إمام مبين) أي أن الشيء الذي أحصيناه إنما هو في إمام مبين. ومعنى ذلك أن الأشياء على قسمين: قسم محصى وهو في إمام مبين. وقسم غير محصى وهو ليس كذلك. وهذا المعنى باطل لا يمكن أن يراد.
فجاء بالعبارة ذات الدلالة القطعية التي لا تحتمل دلالة أخرى.
إن هذه الآيات من سورة (يس) بينت المقصد من هذه السورة وعليها بنيت، فكأنها تلخيص للسورة وبقية السورة تبيين لها. وقد ارتبطت آيات السورة بهذه الآيات ارتباطًا متينًا واضحًا.
فقد أجاب القسم بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي إنك واحد منهم. وقد طبعت السورة بهذا الطابع وقد بنيت على هذا الأمر. فقد ضرب له مثلاً بأصحاب القرية إذ جاءها المرسلون وذكر قصتهم معهم.
وقال: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {یس: 30}، فهذا يدل على كثرة الرسل وأنه واحد منهم.
وذكر تصديق المكذبين لرسلهم في الآخرة {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} {يس: 52}.
وقد ذكر في موطن آخر من السورة أن ما عهده الله إلى بني آدم على لسان رسله هو صراط مستقيم {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}، فانظر كيف وصف الرسول في أول السورة أنه على صراط مستقيم، ويأتي في بحر السورة أن هذا هو عهده إلى بني آدم.
ثم قال: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} وكما بنيت السورة على ما ذكرت من أمر المرسلين وشاع فيها ذلك، بنيت أيضًا على العزة والرحمة وشاع ذلك فيها كما سبق أن ذكرنا في تفسير قوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}.
ثم ذكر الغرض من هذا التنزيل وهو الإنذار فقال: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا} وقد شاع أيضًا جو الإنذار فيها، وهو التحذير من مغبة التكذيب لرسل الله سبحانه وذلك بما يذكره من العقوبات في الدنيا والآخرة وذلك من نحو قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}.
وهذا كله إنذار وتخويف.
ونحو قوله: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} {يس: 43}.
وقوله: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} {يس: 49 - 50}.
وقوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} {یس: 53}
وذكر مشهًدا من مشاهد جهنم وفيه تحذير أي تحذير.
ومن ذلك قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} {يس: 70}.
وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} {يس: 74 - 75}.
وهذا كله تحذير وإنذار لمن كان له قلب.
ثم ذكر القوم الذين سينذرهم وموقفهم من هذا الإنذار وأنهم سواء عليهم الإنذار وعدمه فهم لا يؤمنون على أية حال.
وبين لنا في السورة فيما ضرب من مثل وذكره أن هذا حال أكثر الأقوام الماضية وأن موقفهم من إنذار الرسل واحد ليتأسى رسول الله وليعلم أن هذا ليس موقف قومه وحدهم، فقد ضرب له مثلًا بأصحاب القرية وموقفهم من رسلهم وذكر عاقبتهم ومآلهم، ثم بين أن هذا شأن عباد الله على العموم {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} {یس: 30}، ثم ذكر فيما بعد مؤكدا هذا المعنى: {ومَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} {يس: 46}، ثم ذكر أن الشيطان أضل خلقًا كثيرًا من بني آدم: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} {یس: 62}، ثم ذكر في خواتم السورة أن الله خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين.
وهذه الآية تؤكد ما بينه وقرره من حال الإنسان وموقفه من الله ورسالاته.
ثم ذكر أن جزاء من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب مغفرة وأجر كريم. وشاع هذا الأمر في السورة وقرره في أكثر من موطن، فذكر عاقبة الذين آمن بالرسل من أصحاب القرية وأنه قيل له: {ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} فذكر المغفرة والإكرام وهما ما ذكره في قوله: {فبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}. ثم ذكر أصحاب الجنة ونعيمهم 56 – 58.
ثم ختم هذه الآيات بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} وشاع في السورة أمر إحياء الموتى حتى صار طابعًا لها كما سبق أن ذكرنا.
فاتضح من هذا أن هذه الآيات هي المعاني التي بنيت عليها السورة وشاع فيها ذكرها، والله أعلم.
(1) الكشاف 2/583، وانظر البحر المحيط 7/325.
(2) روح المعاني 22/218.
(3) التفسير الكبير 26/49.
(4) التفسير الكبير 26/49 – 50.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 58 إلى ص 67.