عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴿١١﴾ ﴾ [يس آية:١١]
{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
والمعنى: إذا كان إنذارك لا ينفع من حق عليه القول فإن الإنذار ينفع من يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب، أي ينفع من كان حيًا يؤثر فيه الإنذار، وينفع أيضًا من اتبع الذكر وهو القرآن والوعظ وخشي الرحمن بالغيب وهو المؤمنون.
فالإنذار ينفع طائفتين:
طائفة المؤمنين المتبعين للذكر الخاشين للرحمن، فإن الإنذار يزيدهم إيمانًا وتمسكًا وحذرًا وخوفًا مما تنذرهم إياه.
وطائفة أخرى وهي التي لها قلب وسمع وبصر فتدخل في زمرة أهل الإيمان، وهذا شأن كثير ممن أنذروا، فإنهم فارقوا دينهم وأمنوا بدين الله.
وعلى هذا يكون المعنى: إنما تنذر إنذارًا نافعًا من اتبع الذكر، فمع هؤلاء يحصل المطلوب من الإنذار ومقصوده.
والذكر هو القرآن والمواعظ وكل ما يذكر به المرء.
وقد تقول: إنه عبر بالفعل الماضي فقال: {اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} فهذا يخص طائفة المؤمنين ولا يشمل من لم يدخل الإيمان قلبه بعد.
فنقول: إن الفعل الماضي قد يعبر به عن المستقبل كقوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} {البقرة: 150} أي تخرج، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} {البقرة: 159 – 160}.
أي إلا الذين يتوبون ويصلحون ويبينون بعد الكتمان، فعبر عن الكتمان بالفعل المضارع فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ}، وعبر عن التوبة والاصلاح والتبين بعد الكتمان بالفعل الماضي فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا}، فإذا كان الكتمان مضارعًا فلا شك أن التوبة منه والتبيين يكونان بعده، ولكنه عبر عن ذلك بالفعل الماضي.
جاء في (الكشاف) أن قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}: "على معنى: إنما تحصل البغية بإنذارك من غير هؤلاء المنذرين وهم المتبعون للذكر، وهو القرآن أو الوعظ، الخاشون ربهم" (1).
وجاء في (البحر المحيط): "إنما تنذر، إي إنذارًا ينفع من اتبع الذكر وهو القرآن. قال قتادة: أو الوعظ" (2).
وجاء في (التفسير الكبير): "قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ}.
والترتيب ظاهر، وفي التفسير مسائل:
(المسألة الأولي): قال من قبل (لتنذر) وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا.
وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} وهو يقضي التخصيص فكيف الجمع بينهما؟
نقول من وجوه:
(الأول): هو أن قوله (لتنذر) أي كيفما كان، سواء كان مفيدّا أو لم يكن. وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ} أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى.
(الثاني): هو أن الله تعالى لما قال إن الإرسال والإنزال، وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد، قال لنبيه: ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه فأنذر على سبيل العموم، وإنما تنذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر، كأنه يقول: يا محمد إنك بإنذارك تهدي ولا تدري من تهدي فأنذر الأسود والأحمر ومقصودك من يتبع إنذارك وينتفع بذكراك" (3).
وجاء في (روح المعاني) أن "{اتَّبَعَ} بمعني (يتبع)، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو المعنى إنما ينفع إنذارك المؤمنين الذين اتبعوا. ويكون المراد بمن اتبع المؤمنين، وبالإنذار: الإنذار عما يفرط منهم بعد الاتباع فلا يلزم تحصيل الحاصل.
وقيل: المراد من اتبع في علم الله وهم الأقلون الذين لم يحق القول عليهم" (4).
وقال: {اتَّبَعَ الذِّكْرَ} ولم يقل: (تبع) للدلالة على المبالغة في الاتباع والاجتهاد فيه، ولذا أتبعه بقوله: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} فإن الذي يخشى الرحمن بالغيب هو متبع اتباعًا جادًا وليس اتباعًا على ضعف. والذي يبشر بمغفرة وأجر كريم هو المتبع لا مجرد التابع.
فهؤلاء هم الذين يحصل معهم المقصود من الإنذار.
(1) الكشاف 2/583.
(2) البحر المحيط 7/325.
(3) التفسير الكبير 26/47.
(4) روح المعاني 22/217.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 41 إلى ص 44.
* * *
{وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}
هذا فيه معان وأوجه:
منها: أنه يدل على أنه خشي الرحمن وإن لم يشاهده، فكما آمن به بالغيب خشية بالغيب. وهذا من تمام الإيمان، ذلك أن الناس عادة يخشون من يشاهدهم ويشاهدونه ويعلمونه أنه مراقب أفعالهم، فإن غاب عن أعينهم ذهبت الخشية منه. أما هذا فإنه يخشى الرحمن بالغيب لأنه يعلم أنه حاضر معه شاهد عليه يراقب أفعاله وإن غاب عن بصره.
ومن معاني هذا التعبير أيضًا أنه خشي عقاب الرحمن الذي حذر عباده يوم القيامة وهو غيب. ومعنى خشية الرحمن: خشية عقابه، وهذا من معاني خشية الرحمن بالغيب أيضًا.
ومن معانيه أيضًا أنه يخشى الرحمن إذا غاب عن أعين الناس والمشاهدين له. فكثير من الناس يفعلون أفعالًا إذا خلوا إلى أنفسهم لا يفعلونها إذا شاهدهم الناس. والمعنى أنه إذا أمن مراقبة الناس واطلاعهم عليه خشي الرحمن فلا يفعل إلا ما يرضيه.
فهذا كله من معاني خشية الرحمن بالغيب، وباستكمالها تكون خشيته بالغيب.
جاء في (التفسير الكبير): "وقوله: (بالغيب) يعني بالدليل وإن لم ينته إلى درجة المرئي المشاهد، فإن عند الانتهاء إلى تلك الدرجة لا يبقى للخشية فائدة.
والمشهور أن المراد به بالغيب ما غاب عنا وهو أهوال القيامة، وقيل: إن الوحدانية تدخل فيه" (1).
وجاء في ( البحر المحيط): "{بِالْغَيْبِ} أي الخلوة عند مغيب الإنسان عن عيون البشر" (2).
وجاء في (روح المعاني): "{بِالْغَيْبِ} حال من المضاف المقدر في نظم الكلام... أي خشي عقاب الرحمن حال كون العقاب ملتبسًا بالغيب، أي غائبًا عنه، وحاصله خشي العقاب قبل حلوله ومعاينة أهواله.
ويجوز أن يكون حالًا من فاعل (خشي) أي خشي عقاب الرحمن غائبًا عن العقاب غير مشاهد له، أو خشي غائبًا عن أعين الناس غير مظهر الخشية لهم لأنها علانية قلمًا تسلم عن الرياء" (3).
قالوا: وذكر اسمه (الرحمن) مع الخشية دون غيره من أسمائه الحسنى لأكثر من سبب، منها:
1- أنه قد يسبق إلى الذهن أن الرحمن لا يعاقب لأن رحمته واسعة وأنها سبقت غضبه، فيسبق إلى نفسه الرجاء وينسى الخشية، فذكر ذلك لئلا يغتر مغتر برحمته.
2- أن الرحمة تورث الاتكال، فقرنه بالخشية لئلا يتكل على رحمته وينسى عقابه.
3- أن من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر ينبغي أن يكون الخوف منه أتم وذلك لئلا يقطع عنه نعمته.
4- وهناك أمر آخر، وهو أن جو السورة تشيع فيه الرحمة وذكرها، وقد بنيت السورة على العزة والرحمة كما ذكرنا في قوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} والعزيز ينبغي أن يخشى، فقوله: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} جمع بين العزة والرحمة.
5- وفيه توجيه إلى أن الرحمة ينبغي أن تكون مقرونة بخشية الراحم، فلا يصح الاتصال بالرحمة وحدها. فالرحمة وحدها قد تكون ضعفًا وقد يكون الاتصاف بها ذمًا ونقصًا، فهو توجيه إلى المربين ليجمعوا بين الرحمة والخشية من الراحم، وبين الربوبية والخشية من الرب، وبين الرحمة والعقوبة. ولذا قال تعالى: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} {مريم: 45}، وقال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} {الحجر: 49 – 50}.
وجاء في (التفسير الكبير): "وقوله: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} فيه لطيفة وهي أن الرحمة تورث الاتكال والرجاء فقال مع أنه رحمن ورحيم فالعاقل لا ينبغي أن يترك الخشية، فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم، مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة.
و(تكملة اللطيفة): هي أن من أسماء الله اسمين يختصان به هما الله والرحمن كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} {الإسراء: 110}، حتى قال بعض الأئمة: هما علمان إذا عرفت هذا فالله ينبئ عن الهيبة والرحمن ينبئ عن العاطفية، فقال في موضع: (يرجو الله) وقال هنها: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} يعني: مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا عنه رجاءكم، ومع كونه ذا رحمة لا تأمنوه" (4).
وجاء في (البحر المحيط): "و{وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} أي المتصف بالرحمة مع أن الرحمة قد تعود إلى الرجاء ولكنه مع علمه برحمته هو يخشاه خوفًا من أي يسلبه ما أنعم به عليه" (5).
وجاء في (روح المعاني) : "و{وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} أي عقابه ولم يغتر برحمته عز وجل، فإنه سبحانه مع عظيم رحمته أليم العذاب كما نطق به قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} {الحجر: 49 – 50}.
ومما قرر يعلم سر ذكر الرحمن مع الخشية دون القهار ونحوه" (6).
وقد تقول: ولم قال هنها: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} مع أنه قال في أكثر من موطن: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} من دون ذكر للغيب؟.
والجواب أن كل تعبير مناسب لموطنه الذي هو فيه، ذلك أن قوله: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} مطلق أي يخشونه خشية مطلقة على كل حال سواء كانت بالغيب أم لا. وقوله: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} مقيد، أي أن الخشية تكون بالغيب، أي عند غيبتهم عن عيون الناس. وإيضاح ذلك أنه إذا كان المقصود بالغيب أنه يخشى ربه وإن لم يشاهده أو أنه يخشى عذابه يوم القيامة فإن الخشية كلها فيه سواء قال: (بالغيب) أم لم يقل. وإذا كان المقصود بالغيب بمعنى الغيبة عن عيون الناس فإن هذه الخشية تكون مقيدة، وقوله: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} من دون ذكر للغيب يكون مطلقًا عامًا، أي سواء كان الخاشي أمام الناس أم لا.
وعلى هذا يكون قوله: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} هي حالة من حالات الخشية العامة، وهي جزء منها، فتلك خشية عامة مطلقة سواء كانت أمام الناس أم لا، وهذه مقيدة.
فالخشية العامة هي الخشية بالغيب وزيادة.
فإذا كان المقام يقتضي ذكر الخشية العامة من دون تقييد ذكرها مطلقة ولم يقيدها. وإليك إيضاح ذلك:
قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ }{الأنبياء: 48 – 49}.
وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} {فاطر: 18}.
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} {الملك: 12}.
وقال: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} {ق: 32 – 33}.
وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} {يس: 11}.
فهذه كلها ذكر فيها الخشية بالغيب.
في حين قال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} {الرعد: 21}.
وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} {الزمر: 23}.
فلم يذكر الخشية بالغيب وإنما أطلقها في الموطنين.
أما أية الزمر فإن الأمر فيها واضح، إذ لا داعي فيها للتقيد، فإنه قال: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} واقشعرار الجلود ولينها ولين القلوب أمر غائب عن الآخرين ولا يشعر به إلا صاحبه أم الآخرون فلا يعلمونه، ولا يختلف الأمر سواء كان ذلك وحده أم مع الآخرين فلا يعلمونه، ولا يختلف الأمر سواء كان ذلك وحده أم مع الآخرين فلا داعي لتقييد الخشية بالغيب.
وأما آية الرعد فإننا نذكر السياق الذي وردت فيه.
قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} {الرعد: 19 – 24}.
ومن النص يظهر ما يأتي:
1- أنه وصفهم بأنهم أولو الألباب وقصر عليهم التذكر فقال: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}، والمعنى أنه لا يتذكر إلا أولو الألباب.
2- ذكر أنهم يوفون بعهد الله، وهو وصف عام يشمل الالتزام بجميع الفروض وتجنب جميع المعاصي (7).
3- وأنهم لا ينقضون الميثاق.
4- يصلون ما أمر الله به أن يوصل.
5- يخشون ربهم.
6- يخافون سوء الحساب.
7- أنهم صبروا ابتغاء وجه ربهم.
8- أقاموا الصلاة.
9- أنفقوا مما رزقهم الله سرًا وعلانية، وهذا يدل على الخشية بالغيب وزيادة.
10- يدرؤون بالحسنة السيئة.
وذكر جزاءهم على النحو الآتي:
1- أن لهم عقبى الدار وهي جنات عدن يدخلونها هم.
2- ويدخلها معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.
3- والملائكة يدخلون عليهم من كل باب.
4- يحيونهم بقولهم: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار.
وإذا نظرنا في جميع الآيات التي ورد فيها قوله: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} وجدنا أنها تشمل جزءًا مما ذكر في آيات الرعد. فكما أن الخشية بالغيب جزء من الخشية العامة المطلقة أدرج في مواطن الخشية بالغيب جزءًا مما ذكر في الخشية العامة، فناظر بينهما في الإطلاق والتقييد، والجزئية والكلية، وإليك إيضاح ذلك:
1- ذكر في سورة الأنبياء أنه مما آتى موسى وهارون:
- ذكرًا للمتقين.
- الذين يخشون ربهم بالغيب.
- من الساعة مشفقون.
فما في آية الأنبياء جزء مما ذكر في آيات الرعد، والخشية في الرعد تشمل الخشية بالغيب وزيادة.
2- ذكر في آية فاطر أمرين:
- يخشون ربهم بالغيب.
- أقاموا الصلاة.
3- ذكر في آية الملك:
- يخشون ربهم بالغيب.
4- ذكر في سورة ق:
- أزلقت الجنة للمتقين.
- وهم كل أواب.
- حفيظ.
- من خشي الرحمن بالغيب.
- جاء بقلب منيب.
ومن الملاحظ في آيات (ق) هذه أنه لم يذكر أعمالًا بدنية ظاهرة كالصلاة والإنفاق ودرء السيئة بالحسنة وغيرها.
وأن الجزاء أقل مما في الرعد.
5- ذكر في سورة يس:
- اتبع الذكر.
- خشي الرحمن بالغيب.
وقوله {اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أمر عام يشمل عموم الاتباع. ونظيره في آيات الرعد {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} فإنه يشمل جميع ما عهد الله في كتبه. فما ذكر في الرعد أكثر تفصيلًا، وقد شمل ما في آية (يس) تفصيلًا على جهة الإحسان في الاتباع وليس مجرد الاتباع.
يوضح ذلك أن الله تعالى قال في صفات المتقين: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} {البقرة: 3}، وهذا اتباع.
وقال هنها: {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} {الرعد: 22}، وهذا من الإحسان في الاتباع وليس مجرد الاتباع.
وقال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا} {الشورى: 40} وهذا اتباع، وقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} {الشورى: 40} وهذا أمثل في الاتباع وأحسن. وقال هنها: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} {الرعد: 22} وهذا أعلى وأكمل وأمثل في الاتباع وأحسن مما قبله، ذلك أنه لم يعف فقط وإنما درأ السيئة بالحسنة.
ثم إن الجزاء في آيات الرعد أعلى مما ذكر في سورة (يس)، فقد قال في سورة( يس): {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} وذكر في سورة الرعد: أن لهم عقبى الدار جنات عدن... إلخ.
وهذا أعلى مما ذكر في سورة (يس) فإنه ذكر في سورة (يس) الأجر ولم يذكر الجنة، والأجر لا يعني الجنة نصًا، وإنما هو الجزاء على العمل ويكون الأجر على حسب العمل. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} {النساء: 66 – 68}، فالأجر العظيم هنا لا يعني الجنة، وإنما هو الثواب على العمل، ولذلك قال بعدها: {وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا}.
وقال: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} {المزمل: 20}، إذا لا يصح أن يقال هنا إن الأجر هو الجنة، ألا تري أنه لا يقال (هو خيرًا وأعظم جنة)؟
فما ذكر في آيات الرعد من الصفات والجزاء أعلى وأكمل.
من هذا يتضح أن قوله: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} {الرعد: 21} أعم وأشمل من قوله: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ}.
قد تقول: إنك تعني أن الذين قيل فيهم: {وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أعلى وأمثل ممن قيل فيهم: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} ونحن لا يبدو لنا هذا الأمر.
فنقول: هذا أشمل لأنه يشمل الخشية بالغيب وغيرها. وقد تكون الخشية بالحضور أعلى من الخشية بالغيب عن الناس، ذلك أن قسمًا من الناس ضعاف النفوس لا يحبون أن يتهموا بالتدين والرجعية والجمود أن بالتعقيد، فيتهاون ويعمل أمام الملأ أعمالًا لا ترتضيها نفسه، ولو خلي بينه وبين نفسه لم يفعلها. فمثلًا: إن هناك من يقول: أنا لست صائمًا تدينًا وإنما لأمر يتعلق بالصحة لأنه يخجل أن يقول: أنا صائم تدينًا. وآخر يقول: أنا لا أمتنع عن الخمر تدينًا ولكن لأنها مذهبة للعقل والصحة.
وهناك آخرون يفعلون أفعالًا محرمة بدافع المجاملة ونفوسهم تشعر بالإثم والحرج، ولو تركوا وأنفسهم لم يفعلوها كشرب الخمر أو غيره من المعاصي، كما قال تعالى عن قسم من أهل النار: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} {المدثر: 45}، وعن آخر يقول لصاحبه: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} {الزخرف: 38}، ونحو ذلك.
فإظهار الخشية من الله أمام هؤلاء أكمل وأمثل وأعلى من الخشية بالغياب عن عيون الناس؛ لأن فيها إظهارًا وتعظيمًا لشعائر الله وتقوية لضعفاء الدين، وقمعًا للذين يجاهرون بمحاربة الله ورسوله.
وعلى هذا تكون الخشية المطلقة أشمل وأكمل. ومعنى الخشية المطلقة: الخشية بالغيب والخشية بالمشاهدة.
ثم لنلاحظ من ناحية أخرى في قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أنه ذكر نوعين من العبادة: عبادة ظاهرة وهي قوله تعالى: {اتَّبَعَ الذِّكْرَ}، وعبادة قلبية وهي قوله: {وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}، وذكر نوعين من الجزاء: المغفرة والأجر الكريم.
والمغفرة هي ما يتعلق بالذنوب.
والأجر الكريم ما يتعلق بالعمل الصالح.
فشمل ذلك كل أنواع العمل سواء كان سيئًا أم صالحًا.
فالعمل السيء مغفور لهؤلاء، والعمل الصالح مكافأ عليه بالأجر الكريم وهو أحسن تقسيم وأنسبه.
جاء في (البحر المحيط): "ولما أحدث فيه النذارة بشره بمغفرة لما سلف وأجر كريم على ما أسلف من العمل الصالح وهو الجنة" (8).
وجاء في (روح المعاني): {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ} عظيمة لما سلف، وقيل: لما يفرط منه، {وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} حسن لا يقادر قدره لما أسلف" (9).
(1) التفسير الكبير 26/47.
(2) البحر المحيط 7/325.
(3) روح المعاني 22/217.
(4) التفسير الكبير 26/47 – 48.
(5) البحر المحيط 7/325.
(6) روح المعاني 22/217.
(7) البحر المحيط 5/382.
(8) البحر المحيط 7/325.
(9) روح المعاني 22/217.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 44 إلى ص 55.