عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)}
بعد أن ذكر الموانع التي تمنعهم من الإيمان بين أن الإنذار وعدمه في حقهم سواء فهو لا ينفع معهم شيئًا.
وقد تقول: إذا كان الأمر كذلك فما الغرض من إنذارهم؟ ولم ينذرهم؟
والجواب: أن ذلك للإعذار ولتقوم عليهم الحجة، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} {الأعراف: 164}.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إذا كان الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إليهم فليس ذلك سواء بالنسبة إليه. فإنه وإن كان الإنذار لا يجدي معهم شيئًا لا يكون ذلك مسوغًا لترك الإنذار. فإنه مأمور بالإنذار لمن علم أنه لا يستجيب ولمن لم يعلم. ثم إن الدعوة إلى الله مطلوبة في كل الأحوال، حتى إن أخبره ربنا أن المدعوين لا يستجيبون، وذلك يدل على عظم مكانة الدعوة إلى الله، وأنها لا تسقط بحال من الأحوال. ثم إن كان هؤلاء لا يستجيبون فربما يؤمن من غيرهم من يسمع، ولو كان هذا السمع جاء على طريق الإخبار أو الاستهزاء أو الاستبعاد فيكون ذلك وسيلة لنقل الدعوة من حيث لم يريدوا. ثم إن هذا الإنذار يكتب في صحيفة أعمال الداعي الصالحة مثقلًا لميزانه، ولذا قال تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، ولم يقل: (سواء عليك أأنذرتهم أم لم تنذرهم).
جاء في (التفسير الكبير): "بين تعالى أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغل والسد والإغشاء والأعماء بقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أي الإنذار وعدمه سواء بالنسبة إلى الإيمان منهم، إذ لا وجود له منهم على التقديرين. فإن قيل: إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلماذا الإنذار؟
نقول: قد أجبنا في غير هذا الموضع أنه تعالى قال: (سواء عليهم) وما قال: (سواء عليك)، فالإنذار بالنسبة إلى النبي ليس كعدم الإنذار، لأن أحدهما مخرج له عن العهدة وسبب في زيادة سيادته عاجلًا وسعادته أجلًا. وأما بالنسبة إليهم على السواء فإنذار النبي ليخرج عما عليه وينال ثواب الإنذار وإن لم ينتفعوا به لما كتب عليهم من البوار في دار القرار" (1).
(1) التفسير الكبير 26/46 – 47.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 40 إلى ص 41.