عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ﴿٦﴾    [يس   آية:٦]
{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)} يحتمل أن يكون (لتنذر) متعلقًا بقوله: (تنزيل) أو بالفعل المضمر (نزل) فيكون التقدير: تنزيل العزيز الرحيم لتنذر، أو: نزله العزيز الرحيم لتنذر. كما يحتمل أن يكون متعلقًا بـ (المرسلين) أي: إنك لمن المرسلين لتنذر قومًا بمعني: أنك أرسلت لتنذر قومًا (1). والظاهر أن (ما) نافية، والمعنى: لتنذر قومًا لم ينذر آباؤهم ولذلك هم غافلون، فإن عدم الإنذار هو سبب غفلتهم المستحكمة. فإن هؤلاء القوم لم يأتهم من نذير، كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} {القصص: 46}، {السجدة: 3}. كما أن آباءهم لم ينذروا فاستحكمت الغفلة فيهم إلى درجة أن الإنذار وعدمه سواء عليهم وأنهم كما وصفهم ربنا بقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا..... إلخ}. وقد جوز بعض المفسرين أن تكون (ما) موصولة أو مصدرية فيكون المعنى (لتنذر قومًا الشيء الذي أنذره آبائهم) أو (لتنذر قومًا مثل إنذار ابائهم). وبهذا يكون إثبات الإنذار لآبائهم، والمقصود بالآباء آباؤهم الأقدمون. وقد تقول: إن قوله تعالى: {فَهُمْ غَافِلُونَ} يرد هذا المعنى. والجواب: كلا، إنه لا يرد هذا المعنى، ذلك أن المعنى أن آباءهم الأقدمين أنذروا ولكنهم غفلوا عن ذلك الإنذار لتقادم العهد كما قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ} {المائدة: 19}، وهذا نحو قولنا: (انصح فلانًا كما نصحت أباه فإنه غافل عن ذلك) أو (قل لفلان أن يعمل بنصيحتنا لأبيه فإنه غافل عنها) فإنك أثبت النصيحة وأثبت الغفلة عنها. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ} "قومًا غير منذر آباؤهم، على الوصف، ونحوه قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} {القصص: 46}، {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} {سبأ: 44}. وقد فسر {مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُم} على إثبات الإنذار، ووجه ذلك أن تجعل (ما) مصدرية، لتنذر قومًا إنذار آبائهم، أو موصولة منصوبة على المفعول الثاني: لتنذر قومًا ما أنذره آباؤهم من العذاب كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} {النبأ: 40}. فإن قلت: أي فرق بين تعلقي قوله: {فَهُمْ غَافِلُونَ} على التفسيرين؟. قلت: هو على الأول متعلق بالنفي، أي لم ينذر آباؤهم فهم غافلون، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم. وعلى الثاني بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} لتنذر، كما تقول: أرسلتك إلى فلان لتنذره فإنه غافل، أو فهو غافل. فإن قلت: كيف يكونون منذرين غير منذرين لمناقضة هذا ما في الرأي الآخر؟ قلت: لا مناقضة، لأن الآية في نفي إنذارهم لا في نفي إنذار آبائهم. وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل وكانت النذارة فيهم. فإن قلت: ففي أحد التفسيرين أن آباءهم لم ينذروا وهو الظاهر، فما تصنع به؟ قلت: أريد آباؤهم الأدنون دون الأباعد" (2). وجاء في (التفسير الكبير): "فعلى قولنا: (ما) نافية تفسيره ظاهر، فإن من لم ينذر آباؤه وبعد الإنذار عنه فهو يكون غافلًا. وعلى قولنا: هي للإثبات كذلك، لأن معناه: لتنذرهم إنذار آبائهم فإنهم غافلون. وفيه مسائل: (المسألة الأولى): كيف يفهم التفسيران وأحدهما يقتضي أن لا يكون آباؤهم منذرين، والآخر يقتضي أن يكونوا منذرين وبينهما تضاد؟. نقول على قولنا: (ما) نافية معناه، ما أنذر آباؤهم، وإنذار آبائهم الأولين لا ينافي أن يكون المتقدمون من آبائهم منذرين، والمتأخرون منهم غير منذرين" (3). وجاء في (روح المعاني): "{فَهُمْ غَافِلُونَ} هو على الوجه الاول متفرع على نفي الإنذار ومتسبب عنه والضمير للفريقين، أي لم ينذر آباؤهم فهم جميعًا لأجل ذلك غافلون. وعلى الأوجه الباقية: متعلق بقوله تعالي: (لتنذر) أو بما يفيده {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وارد لتعليل إنذاره علية الصلاة والسلام أو إرساله بغفلتهم المحوجة إليه، نحو: اسقه فإنه عطشان، على أن الضمير للقوم خاصة، فالمعنى فهم غافلون عنه، أي: عما أنذر آباؤهم. وقال الخفاجي: يجوز تعلقه بهذا على الأول أيضًا، وتعلقه بقوله تعالى: (لتنذر) على الوجوه، وجعل الفاء تعليلية والضمير لهم أو لآبائهم. ا ه، ولا يخفى عليك أن المنساق إلى الذهن ما قرر أولًا" (4). والذي يترجح عندي المعنى الأول وهو الذي يسبق إلى الذهن. أما إذا أريد بالآباء الآباء الأقدمون فإن إسماعيل عليه السلام أبوهم وكان رسولًا نبيًا ولا شك أنه أنذر قومه، بل إن إبراهيم عليه السلام أبوهم كما قال: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} فلا يتناقص الأمران على ذلك. ولا أرى أنه يعني بذلك إبراهيم أو إسماعيل عليهما السلام أو من هو ممن دونهما ممن كان بعيدًا جدًا عن قوم الرسول . لأن أقرب رسول إلى نبينا محمد  عيسى عليه السلام وبينهما أكثر من خمسمائة عام فما بالك بمن قبله، ولا شك على هذا أن آباءهم لم ينذروا، والله أعلم. (1) انظر روح المعاني 22/213. (2) الكشاف 2/581 – 582 وانظر البحر المحيط 26/42. (3) التفسير الكبير 26/24. (4) روح المعاني 22/213 ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 21 إلى ص 24.