عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴿٤﴾    [يس   آية:٤]
{عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)} يحتمل أن يكون هذا الجار والمجرور خبرًا بعد خبر، أي: إنك على صراط مستقيم، كما تقول: (إنه من أهل بغداد من أصحاب الثراء) فأخبرت أنه من أهل بغداد، وإنه من أصحاب الثراء. كما يحتمل أن يكون متعلقًا بالمرسلين، أي: إنك من الذين أرسلوا على صراط مستقيم. وقد تقول: وما الفرق بين التقديرين؟ والجواب: إنك إذا جعلته خبرًا بعد خبر فإنه يصح أن تستغني بأحد الخبرين ويتم الكلام، فإنه يصح أن تقول: (إنك لمن المرسلين) وتكتفي، كما قال تعالى في موطن آخر {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} {البقرة: 252}. وتقول: (إنك على صراط مستقيم) وتكتفي كما قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {الزخرف: 43}. أما إذا جعلته متعلقًا بالمرسلين فإنك تجعل الكلام لا يتم إلا بمتعلقة، فقوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يكون مرتبطًا بما قبله متعلقًا به كما تقول: (أنت من المرسلين بهذا الأمر) أو (أنت من المرسلين إلى هؤلاء القوم) و(أنت من المرسلين على نفقة الدولة). وقد تقول: ولم لم يكتف بأحد الخبرين كما فعل في موطن آخر؟ والجواب: أنه لو قال: (إنك لمن المرسلين) لدل على أنه على صراط مستقيم تضمنًا لا تصريحًا، فإن كونه من المرسلين يدل على أمور كثيرة، منها: أنه صادق. ومنها: أنه على حق. ومنها: أنه على صراط مستقيم. ومنها أنه يأمر بالخير. ومنها: مجرد الإخبار أنه من المرسلين لا إلى إرادة معنى متضمن، فقوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} حدد أمرًا معينًا مما تضمنه كونه من المرسلين ولم يدع ذلك للذهن الذي قد ينصرف إلى أمور غير معينة. وقد يقتضي المقام أن يصرح بأمور مما تقتضيه الرسالة. أما إذا قال: (إنك على صراط مستقيم) فقط فإنه لا يدل على أنه من المرسلين، فكون الشخص على الصراط المستقيم لا يعني أنه رسول من عند الله. فجمع بين الأمرين لإفادة المعنيين تصريحًا. وقد تقول: إذا كان الأمر كذلك فلم اكتفى إذن بأحد الخبرين في موطن أخر من القرآن، فقال في موطن: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وقال في موطن آخر: {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}؟ والجواب: أن كل موطن يقتضي ما ذكر فيه، وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} {البقرة: 252}. وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {الزخرف: 43}. وإذا نظرنا في سياق أية البقرة لم نر فيه ذكرًا للدعوة إلى دين الله وهو الصراط المستقيم، وإنما وردت في سياق القصص القرآني، فقد وردت في سياق قصة طالوت وجالوت ثم ذكر بعدها بعضًا من الرسل. لقد وردت في سياق إثبات نبوة الرسول بإخباره عما لم يعلم من أخبار الماضين، فإنه لما ذكر قصة طالوت قال بعدها: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أي أن إجراء هذه الأخبار على لسانك وأنت لا تعلمها دليل على أنه من المرسلين. وأما آية الزخرف فإنها وردت في سياق الدعوة إلى الله وهداية الخلق إلى صراط المستقيم، قال تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ} {الزخرف: 40 – 45}. فقوله: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} يعني هداية الخلق إلى صراط المستقيم ودينه القويم. وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني ما أوحاه فاقتضى ذلك ذكر الصراط المستقيم. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن قوله: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} يعني أنه نبي مرسل، وكذلك قوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا}، فجمع بين كونه مرسلًا وأنه على صراط مستقيم كما فعل في آية (يس) فاقتضى كل موطن ما ذكر فيه. ووصف الصراط بأنه مستقيم يدل على أنه أقرب الطرق الموصلة إلى المطلوب وأنه طريق قويم وشرع مستقيم. جاء في (الكشاف): { عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر، أو صلة للمرسلين. فإن قلت: أي حاجة إليه خبرًا كان أو صلة وقد علم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟. قلت: ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم من غيره ممن ليس على صفته، وإنما الغرض وصفه ووصف ما جاء به من الشريعة، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال: إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت. وأيضًا فإن التنكير فيه دال على أنه أرسل من بين الصرط المستقيمة على صراط لا يكتنه وصفه (1). وجاء في (التفسير الكبير): {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} خبر بعد خبر، أي إنك على صراط مستقيم. والمستقيم أقرب الطرق الموصلة إلى المقصد، والدين كذلك فإنه توجه إلى الله تعالى (2) وتولي عن غيره، والمقصد هو الله، والمتوجه إلى القصد أقرب إليه من المولي عنه والمنحرف منه. ولا يذهب فهم أحد إلى أن قوله: إنك منهم على صراط مستقيم مميز له عن غيره كما يقال: إن محمدًا من الناس مجتبى، لأن جميع المرسلين على صراط مستقيم. وإنما المقصود بيان كون النبي  على الصراط المستقيم الذي يكون عليه المرسلون" (3). وقد تقول: ولم قدم {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} على قوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ولم يقل: (إنك لعلى صراط مستقيم من المرسلين)؟ والجواب أنه فعل ذلك لعدة أمور: منها: أن قوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} أفضل من كونه على صراط مستقيم، لأن كونه مرسلًا يعني أنه صراط مستقيم وأنه نبي. ومنها: أن قوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} يتضمن أنه على صراط مستقيم. ومنها: أن هذا من باب تقديم السبب على المسبب، فإن كونه على صراط مستقيم إنما هو بسبب أنه مرسل أوحي إليه بهذا الصراط فهو أسبق في الرتبة. ومنها: أن تقديم المرسلين يمكن أن يعلق به {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فيكون من تمام معناه كما بينا، أي إنك أرسلت على طريق مستقيم. ولو أنا قلنا: (إنك على صراط مستقيم من المرسلين) لم يصح تعليق (من المرسلين) بما قبله فينقطع الكلام ولا يتصل. فإن هذا التقديم أولى من كل ناحية. (1) الكشاف 2/581. (2) كذا ورد، والصواب: وتول. (3) التفسير الكبير 26/41. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 10 إلى ص 15.