عرض وقفة أسرار بلاغية
{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)}
جواب القسم، فهو قد أقسم بالقرآن الكريم إنه لمن المرسلين.
وقد تقول: كيف يقسم بالقرآن والمفروض أن يقسم بشيء أجمع المقسم والمقسم له على تعظيمه وقبوله مقسمًا به، والقوم لا يرون أن القرآن كلام الله فلا يتعدون بالقسم به، فما قيمة هذا القسم؟
والجواب: أن القرآن جعله الله معجزة الرسول والدليل الأكبر على رسالته والبرهان الأعظم عليها. قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} {العنكبوت: 50 – 51}.
وقد سماه الله برهانًا فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} {النساء: 174}
وقد تحداهم به أكثر من مرة ووصفه بأنه قرآن حكيم. فهو قد أقسم بما تقوم به الحجة عليهم. فكأنه قال لهم: تدبروا هذا القرآن وتأملوه، فإنه أحكم إحكامًا لا إحكام بعده، وأنه حكيم ينطق بالحكمة وهو حاكم يعلو ولا يعلى عليه، فلو تدبرتموه لعلمتم علم اليقين أنه أنزل من عند الله. فهذا من أحسن القسم.
جاء في (التفسير الكبير): "إن هذا ليس مجرد الحلف، وإنما هو دليل خرج في صورة اليمين لأن القرآن معجزة، ودليل كونه مرسلًا هو المعجزة والقرآن كذلك" (1).
ومثل هذا القسم يستعمل في حياتنا العامة لإقامة الدليل، وذلك كأن ينكر شخص إحسان شخص عليه وأنت تعلم أن قميصه الذي يلبسه هو مما أحسن به عليه فتقول له: (ورب لابس هذا القميص إنه لمحسن) أو (ورب هذا القميص إنه لجواد) بل قد يقولون: (وحق هذا القميص إنه لكريم)، فتقسم بما تقوم عليه الحجة والدليل الذي لا يتمكن من إنكاره.
ثم إن هذا القرآن هو البرهان وهو موضوع الرسالة في آن واحد. فإنه أحيانًا تختلف المعجزة عن موضوع الرسالة فتكون المعجزة لتأييد الرسالة، وذلك كمعجزة موسى في قلب العصا حية أو جعل اليد بيضاء للناظرين أو نحوهما، فإن هذه المعجزات ليست موضوع الرسالة وإنما الرسالة هي التوحيد والتعاليم التي أمر بها ربنا سبحانه. وهذه المعجزات لتأييد الرسول وتصديقه بما يقول. ونحو ناقة صالح فإنها معجزة وآية على صدق سيدنا صالح، ولكنها ليست هي موضوع الرسالة، فإنه أرسل بعبادة الله وحده والأوامر والنواهي التي أرادها ربنا وبلغها نبي الله. أما القرآن الكريم فهو المعجزة والآية الدالة على صدقه وإنه هو موضوع الرسالة، وبذلك جمع الفضلين وحاز الشرفين فاستحق بذلك أن يقسم به.
وقد اكد الجواب بـ (إن) واللام {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وذلك لشدة إنكار قومه لرسالته كما بينت ذلك الآيات التي بعدها، فقد ذكر أنهم غافلون وأنه حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون. وأنه جعل من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا فأغشاهم فهم لا يبصرون، وأنه سواء عليهم الإنذار وعدمه فهم لا يؤمنون على أية حال. فاستدعى ذلك الزيادة في التوكيد.
وقال: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} ولم يقل: (إنك رسول) ذلك أن قوله: (من المرسلين) يدل على أنه واحد من جماعة يشتركون معه في الوصف. وأما قوله: (إنك رسول) فإنه إخبار بصفته بغض النظر عما إذا كان يشاركه أحد في الوصف أم لا. فأنت تقول: (هو ناجح) فتخبر عن نجاحه سواء كان ثمة ناجح غيره أم لا. وتقول: (وهو من الناجحين) وذلك إذا كان معه أخرون. وكذلك تقول: (هو ناج) وقد لا يكون معه ناج آخر، وتقول: (هو من الناجين) إذا كان معه ناجون. وتقول: (هو مُغرَق) و(هو من المغرقين). فقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} يشير إلى إنه ليس بدعًا من الرسل، وإنما هو واحد من جماعة لهم مثل صفته.
(1) التفسير الكبير 26/41.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 8 إلى ص 10.