عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴿١١٢﴾    [الأنبياء   آية:١١٢]
{قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)} أي دعا الرسول بذلك فقال: رب احكم بالحق. و(رب) منادى مضاف إلى ياء المتكلم، أي يا رب احكم على هؤلاء بالحق وعجل لهم العقوبة وشدد عليهم العذاب بما يستحقون ولا ترحمهم. جاء في (الكشاف): "ومعنى (بالحق) لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم" (1). وجاء في (روح المعاني): "والحق: العدل، أي رب اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضي لتعجيل العذاب والتشديد عليهم، فهو دعاء بالتعجيل والتشديد وإلا فكل قضائه تعالى عدل وحق" (2). وجاء في (التفسير الكبير) للرازي: {رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ} فيه وجوه: أحدها: أي رب اقض بيني وبين قومي بالحق، أي بالعذاب، كأنه قال: اقض بيني وبين من كذبني بالعذاب. وقال قتادة: أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: ۸۹] فلا جرم حكم الله تعالى عليهم بالقتل يوم بدر. وثانيها: افصل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع وهو أن تنصرني عليهم" (3). {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ} أضاف الرب إلى ضمير المؤمنين وجاء باسمه الرحمن، أي نستعين بربنا الرحمن ليرحمنا ويعيننا على ما تصفون. وقرأ الأكثرون (قل) بالأمر (4). وأنزلت القراءتان مرة بالأمر ومرة بالفعل الماضي ليدل سبحانه على أنه أمر رسوله بالدعاء فدعا. والله أعلم. {عَلَى مَا تَصِفُونَ} يعني ما تذكرونه من الشرك والأباطيل ونحو ذلك مما يصفون الله مما لا يليق به سبحانه. وما يصفون به رسوله من صفات الاستخفاف والاستهزاء كوصفه بالجنون والكذب والسحر. ويصفون به المؤمنين من صفات الاستهجان والاستهزاء بهم ووصفهم لهم بالضلال كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البقر: 212]. وقالوا لهم: { إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } [يس: 47]. وقالوا: { إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 9]. وكانوا يقولون إذا رأوا المؤمنين: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام: 53]. ونحو ذلك من صفات الاستكبار والاستخفاف بهم. وكانوا يطمعون أن يكون لهم النصر والغلبة وأن العاقبة لهم فخيب الله أملهم. جاء في (الكشاف): "كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه، وكانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة، فكذب الله ظنونهم، وخيب آمالهم، ونصر رسوله  والمؤمنين، وخذلهم" (5). وجاء في (التفسير الكبير) للرازي: "أما قوله تعالى: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} ففيه وجهان: أحدهما: أي من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل والتكذيب. كأنه سبحانه قال: قل داعيًا لي: {رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ} وقل متوعدًا للكفار: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}... أي قل لأصحابك المؤمنين: وربنا الرحمن المستعان على ما يصف الكفار من الأباطيل. أي من العون على دفع أباطيلهم. وثانيها: كانوا يطمعون أن تكون لهم الشوكة والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسوله  والمؤمنين وخذلهم" (6). وقرئ: (على ما يصفون) وذلك - والله أعلم - ليذكر حالتين، حالة مواجهتهم فيقول لهم: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وحال غيبتهم فيقول للمؤمنين: (وربنا الرحمن المستعان على ما يصفون). فجمع في القراءتين حالتي المواجهة والغيبة. وقال: {عَلَى مَا تَصِفُونَ} بالفعل المضارع ولم يقل: (على ما وصفتم) بالفعل الماضي؛ وذلك لأنهم يكررون الأوصاف ويذكرونها باستمرار. إن هذه الآية فيها جانبان: جانب يتعلق بالأشخاص. وجانب يتعلق بالمعتقدات. أما الجانب الأول فهو قوله: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ ‎بِالْحَقِّ} فهو دعاء على الكافرين بأن يحكم عليهم بالعدل لا بالرحمة. وأما الجانب الآخر فهو قوله: {وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} فهو استعانة على معتقداتهم وما يصفونه على العموم. وفي ختام السورة يحسن أن نشير إلى ارتباط خاتمة السورة بأولها كما أشرنا إلى ارتباط مفتتح السورة بخاتمة السورة التي قبلها، أعني سورة (طه) في مفتتح السورة فنقول: إنه من النظر في أول السورة وخاتمتها يتضح أن بينهما مناسبة ظاهرة وارتباطاً بينا. فقد ابتدأت السورة باقتراب الحساب للناس وهو قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}. وختمت باقتراب الوعد الحق وأحداث الساعة وما بعدها إلى ورود النار أو دخول الجنة، ابتداء من قوله سبحانه: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وما بعد ذلك من الآيات. وذكر الغفلة في أول السورة وذلك قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}. وقال في أواخرها: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}. كأن ذلك تسلسل مشهد متصل (7). وهو شأن السور على العموم في التناسب بين المفتتح والخواتيم (8). جاء في (نظم الدرر): "فقد انطبق آخر السورة على أولها بذكر الساعة ردًا على قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} وذكر غفلتهم وإعراضهم. وذكر القرآن الذي هو البلاغ، وذكر الرسالة بالرحمة لمن نسبوه إلى السحر وغيره، وتفصيـل مـا استعجلـوا بـه مـن آيـات الأوليـن وغيـر ذلك" (9). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 262 إلى ص 266. (1) الكشاف 2/339. (2) روح المعاني 17/108 وانظر تفسير أبي السعود 3/732. (3) التفسير الكبير 8/195. (4) انظر النشر في القراءات العشر 2/365. (5) الكشاف 2/340 (6) التفسير الكبير 8/196. (7) انظر كتابنا (التناسب بين السور في المفتتح والخواتيم) 33 – 34. (8) انظر القسم الأول من كتابنا (التناسب بين السور في المفتتح والخواتيم). (9) نظم الدرر 12/515.