عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ﴿١١٠﴾    [الأنبياء   آية:١١٠]
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)} لقد خصص ذكر الجهر بالقول فقال: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ} لأن الجهر قد يكون في غير القول. فقد يكون الجهر بما يدرك بالبصر، قال تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]، وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} [الأنعام: 47]. جاء في (المفردات في غريب القرآن): "(جهر) يقال لظهور الشيء بإفراد حاسة البصر أو حاسة السمع. أما البصر فنحو (رأيته جهارًا)، قال الله تعالى: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً}. وأما السمع فمنه قوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ}، وقال عز وجل:... {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} (1). وقد خصص الجهر بالقول في الآية لأن السياق في القول، فقد قال قبل الآية: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)} فالسياق كما هو ظاهر في التبليغ. لقد قال سبحانه: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} فأسند الكتمان إليهم ولم يسند الجهر إليهم، فلم يقل: (يعلم ما تجهرون من القول ويعلم ما تكتمون) وذلك لأن الجهر ليس خاصًا بهم، فقد جهر الرسول بالقول وبلغهم وآذنهم على سواء فجهر بذلك. وهم يجهرون بكفرهم فأطلقه. وأما الكتمان فقد أسنده إليهم لأن الكلام عليهم، فهم الذين يكتمون في صدورهم ما يكتمون وما يضمرون من الحقد ونحوه. جاء في (الكشاف): "والله عالم لا يخفى عليه ما تجاهرون به من كلام الطعانين في الإسلام، وما تكتمونه في صدوركم من الإحن والأحقاد للمسلمين، وهو يجازيكم عليه" (2). قد تقول: ولكن قد يطلق الجهر والخفاء أحيانًا، وقد يضيفهما إلى المخاطبين. فقد قال تعالى في سورة الأعلى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)} فأطلق الجهر والخفاء. وقال في موضع آخر: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3]. فأضاف السر والجهر إليهم فما الفرق؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب لسياقه الذي ورد فيه. أما آية الأعلى فإن الكلام فيها عام غير مقيد بالإنسان. قال تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} [الأعلى: 1 - 5]. فليس الكلام على الإنسان أصلاً وإنما الكلام على الله سبحانه وصفاته. ثم إنه أطلق الأفعال أيضًا. فقد قال: (خلق) ولم يخصص الخلق بشيء معين. وقال: (فسوى)، وقال: (والذي قدر) و(فهدى). وكلها أفعال مطلقة غير مقيدة. ثم قال: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } وليس ذلك في الكلام على الإنسان، وإنما هو كله في صفات الله سبحانه وقدرته، فأطلق الجهر والخفاء على العموم ولم يسنده أو يضفه إلى معين. وأما آية الأنعام وهي قوله: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} فقد أضاف السر والجهر فيها إلى ضمير المخاطبين لأن الكلام على الإنسان. فقد قال سبحانه قبل الآية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)} فالكلام كما هو واضح على الإنسان. وقد خاطبهم بذلك فناسبت الإضافة إليهم. فكان كل تعبير مناسبًا لسياقه الذي ورد فيه. وهذا ظاهر. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 259 إلى ص 261. (1) مفردات الراغب (جهر). (2) الكشاف 2/339.