عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ ﴿١٠٩﴾    [الأنبياء   آية:١٠٩]
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)} {آَذَنْتُكُمْ} أي أعلمتكم. ويتضمن الفعل معنى التحذير والإنذار. وقوله: (على سواء) يعني أعلمتكم جميعًا لم أستثن أحدا منكم، بل أعلمتكم كلكم. فقد حذرهم وأنذرهم كلهم مغبة توليهم. وقوله: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} يعني أنه لا يعلم متى سيقع ما حذرهم منه أهو قريب أم بعيد، ولكنه واقع لا محالة. فقد نفى عن نفسه العلم بموعد وقوعه. وقوله: {مَا تُوعَدُونَ} يدل على أنه وعدهم ما يسوؤهم من غلبة المسلمين عليهم وما يلحقهم من عذاب في الدنيا والآخرة. وجاء بالفعل المضارع (توعدون) ولم يقل: (ما وعدتم) للدلالة على تكرار الوعيد والإنذار والاستمرار في ذلك. جاء في (الكشاف): "(آذن) منقول من (أذن) إذا علم، ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار، ومنه قوله تعالى: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]... والمعنى: أني بعد توليكم وإعراضكم عن قبول ما عرض عليكم من وجوب توحيد الله... كرجل بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدرة فنبذ إليهم العهد وشهر النبذ وأشاعه وآذنهم جميعًا بذلك. (على سواء) أي مستوين في الإعلام به، لم يطوه عن أحد وكاشف كلهم... (ما توعدون) من غلبة المسلمين عليكم كائن لا محالة، ولا بد من أن يلحقكم بذلك الذلة والصغار وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك؛ لأن الله لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه" (1). وجاء في (البحر المحيط): "(آذنتكم): أعلمتكم، وتتضمن معنى التحذير والنذارة، (على سواء) لم أخص أحدًا دون أحد" (2). و"(ما توعدون) من غلبة المسلمين عليكم وظهور الدين أو الحشر مع كونه آتيًا لا محالة" (3). لقد نفى علمه بـ (إن) ولم ينفه بـ (ما)، فلم يقل: (وما أدري) ذلك أن (إن) أكد في النفي من (ما) فإن ذلك مختص علمه بالله. قد تقول: ولكنه نفى الدراية عن نفسه بـ (ما) في موضع آخر فقال: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]. فنقول: إن ذلك بحسب الدراية، فإن كانت الدراية أبعد في عدم العلم نفاها بـ (إن). وآية الأنبياء أبعد في عدم الدراية من آية الأحقاف "فقد أطلع الله رسوله فيما بعد على ما سيفعله به وبهم في الدنيا والآخرة، فقد وعده بالفتح والنصر والمغفرة وكسر شوكة الكفر في الدنيا، وأطلعه على ما سيفعله به وبهم في الآخرة، ولذلك قيل: الآية منسوخة (4). في حين لم يطلع الله سبحانه رسوله ولا أحدًا من خلقه على موعد يوم القيامة، فإن هذا مما اختص الله به نفسه، ولم يظهره لأحد غيره. فأكد عدم العلم بالساعة بـ (إن) والآخر بـ (ما)" (5). فاتضح الفرق. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 257 إلى ص 259. (1) الكشاف 2/339. (2) البحر المحيط 6/344. (3) روح المعاني 17/107. (4) انظر الكشاف 3/118. (5) معاني النحو 4/239.