عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿١٠٨﴾    [الأنبياء   آية:١٠٨]
{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)} يحتمل أن تكون (ما) في قوله: "{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ}كافة، و(إنما) تفيد الحصر. كما يحتمل أن تكون (ما) اسمًا موصولاً، أي إن الذي يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد. وعلى الاحتمال الأول يكون المعنى أنه لا يوحى إلي إلا التوحيد. واعترض على هذا القول بأن الوحي لم يقتصر على التوحيد وإنما هو في أمور كثيرة من مطالب الشريعة. وأجيب بأن التوحيد هو المقصود الأول من الرسالة. وعلى الاحتمال الثاني يكون المعنى ظاهرًا وهو أن الذي يوحى إليه أنه لا إله إلا إله واحد وليست آلهة متعددة. ولا يعني هذا الوجه أن الوحي مقصور على هذا، وإنما هذا ما أوحي إليه، كقوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]. فهذا ما أوحي إليه وليس الوحي مقصورًا على هذا، جاء في (الكشاف): "(إنما) لقصر الحكم على شيء، أو لقصر الشيء على حكم، كقولك: (إنما زيد قائم) و(إنما يقوم زيد) وقد اجتمع المثالان في هذه الآية؛ لأن {إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ} مع فاعله بمنزلة: إنما يقوم زيد، و {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} بمنزلة: إنما زيد قائم. وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى رسول الله  مقصور على استئثار الله بالوحدانية... ويجـوز أن يكـون المعنى: أن الذي يوحى إلي، فتكـون (ما) موصولة (1). وجاء في (تفسير أبي السعود): "أي ما يوحى إلي إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد لأنه المقصود الأصلي من البعثة. وأما ما عداه فمن الأحكام المتفرعة عليه، فإنما الأولى لقصر الحكم على الشيء كقولك: (إنما يقوم زيد) أي ما يقوم إلا زيد، والثانية لقصر الشيء على الحكم كقولك: (إنما زيد قائم) أي ليس له إلا صفة القيام" (2). ورد أبو حيان على هذا الاحتمال بقوله: "ولو كانت (إنما) دالة على الحصر لزم أن يقال: إنه لم يوح إليه شيء إلا التوحيد، وذلك لا يصح الحصر فيه، إذ قد أوحى له أشياء غير التوحيد... ويجوز في (ما) من ( إنما) أن تكون موصولة" (3). وقد يقال: إن المقصود إنه في مسألة التوحيد ما أوحي إلي إلا أنما إلهكم إله واحد. فتخصيص الوحي بما يتعلق بالتوحيد نظير قوله تعالى: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص: 70] أي فيما يتعلق بهذا الأمر وليس فيما أوحي إليه كله. وعلى كل ففي التقدير الأول مندوحة وفي كل سعة. قد تقول: لقد قال في سورة الكهف: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، ولم يقل مثل ذلك في آية الأنبياء. ثم إن تمام كل من الآيتين مختلف. فقد قال في آية الكهف: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وقال في آية الأنبياء: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فما سبب الاختلاف؟ فنقول: أما عدم ذكر أنه بشر مثلهم في آية الأنبياء فلأنه تقدم هذا المعنى في أول السورة وقد ذكر المشركون ذلك. قال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)} وقرر ربنا هذا المعنى بعد هذه الآية فقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8} فاكتفى بما مر ذكره. بخلاف سورة الكهف فإنه لم يذكر فيها هذا المعنى فذكره في الآية، فناسب كل تعبير موضعه. جاء في (ملاك التأويل) في بيان هذا الأمر: "أنه لما تقدم في أول سورة الأنبياء إثبات كون الرسل عليهم السلام من البشر فيما حكاه تعالى من قول الكفار بعضهم لبعض: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، ثم قال تعالى: رادًّا لقولهم مثبتًا كون الرسل من البشر: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. ثم تتابع في السورة ذكر الرسل من البشر في عدة مواضع إفصاحًا وإشارة، آخرها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}،، والخطاب لنبينا عليه السلام، قال تعالى بعد ذلك: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}، فلم يحتج هنا أن يذكر كونه - عليه السلام - من البشر إذ قد توالى ذكر ذلك جملة وتفصيلاً. أما سورة الكهف فلم يتقدم فيها مثل هذا، فكان مظنة الإعلام بكونه  من البشر إرغامًا لأعدائه، ولما في تلطفه تعالى بالخلق ورحمته إياهم. قال تعالى: {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 9]، وقال تعالى: {} [الأنعام: 8]. فكون الرسل من البشر من أعظم إنعامه سبحانه على الخلق. وخصت آية الكهف بذكر بشريته عليه السلام لما بيناه. وورد كل ذلك على ما يناسب، ولم يكن عكس الوارد ليناسب. والله أعلم بما أراد (4). وأما قوله تعالى في آية الكهف: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، فقد ذكر فيه أمرين: العمل الصالح، وعدم الشرك. أما قوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا}، فهو مناسب لما تقدم الآية من ذكر العمل الصالح، فقد قال قبل الآية: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)} وقال قبلها في خواتيم السورة: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} فناسب ذكر العمل. ثم إن هذا مناسب لما تقدم في أول السورة وهو قوله: {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)}. فناسب ذلك السياق الذي وردت فيه الآية كما ناسب أول السورة. وليس في آية الأنبياء نحو ذلك. وأما قوله: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، فهو مناسب لقوله في أواخر السورة: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)}، وهو تحذير لمن أشرك بعبادة ربه واتخذ عباده من دونه أولياء. ومناسب لما ورد في أول السورة وهو قوله: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}. ومناسب لما ورد في أول السورة في قصة أصحاب الكهف وإيمانهم بالله وحده وكفرهم بما أشرك قومهم. فقد قال تعالى فيهم: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)}. فناسب ذلك ما ورد في سياق الآية وما ورد في أول السورة. وليس في آية الأنبياء مثل هذا. وأما قوله سبحانه في آية الأنبياء: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فهو مناسب لقوله في الآية قبلها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. وقد أرسله ربه بالإسلام كما هو معلوم. ومناسب لقوله سبحانه في أول السورة: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} وهذا الكتاب هو القرآن وهو كتاب المسلمين كما هو معلوم. فناسب قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} سياقه وما ورد في أول السورة، فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه. وقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} "استفهام يتضمن الأمر بإخلاص التوحيد والانقياد إلى الله تعالى" (5). وجاء في (الكشاف): "وفي قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أن الوحي الوارد على هذا السنن موجب أن تخلصوا التوحيد الله وأن تخلعوا الأنداد" (6). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 251 إلى ص 256. (1) الكشاف 2/336. (2) تفسير أبي السعود 3/732. (3) البحر المحيط 6/344. (4) ملاك التأويل 2/656. (5) البحر المحيط 6/334. (6) الكشاف 2/339.