عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ﴿١٠١﴾    [الأنبياء   آية:١٠١]
  • ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴿١٠٢﴾    [الأنبياء   آية:١٠٢]
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)} (الحسنى) مؤنث الأحسن وهي الصيغة العليا في التفضيل، وهي "إما السعادة وإما البشرى بالثواب وإما التوفيق للطاعة" (1). {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} قال: (مبعدون) ولم يقل: (بعيدون عنها) إذ لا يبعد عنها إلا من أبعده الله عنها، ولا ينجو منها إلا من نجاه الله كما قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: 71 - 72]. فقال: (ننجي) ولم يقل: (ينجو). وكما قال: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 14 - 18]. فقال: (يجنبها) ولم يقل: (يتجنبها). وقدم (لهم) على الفاعل وهو (الحسنى) لأن الكلام عليهم وللزيادة في إكرامهم وتبشير هم بما ذكر. {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} "أي لا يسمعون صوتها سمعًا ضعيفًا كما هو المعهود عند كون المصوت بعيدًا... (والجملة) مسوقة للمبالغة في إنقاذهم منها " (2). مما يدل على أنهم في غاية الإبعاد عنها بتوفيق الله وطاعته أعاذنا الله منها. {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} وهذا فوز آخر، والفوز الأول إبعادهم عن النار وذلك فوز مبين كما قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام: 15 - 16]. وقال: {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 9]. جاء في (تفسير أبي السعود): "{وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ}بيان لفوزهم بالمطالب إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب، أي دائمون في غاية التنعم. وتقديم الظرف للقصر والاهتمام به" (3). إن هناك نوعين من اشتهاء الأنفس: اشتهاء ثابتًا وهو الخلود في النعيم. واشتهاء متجددًا وهو ما يطلبونه ويتمنونه كما قوله تعالى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ }[الطور: 22]، وقوله: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 20 - 21]، وقوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31] أي ما تطلبون، فلهم ما تشتهي أنفسهم من الأشياء الثابتة والمتجددة. فعبر عن الاشتهاء الثابت بالفعل الماضي لأن هذا مما استقر في النفوس. وعبر عن الاشتهاء المتجدد بالفعل المضارع الذي يدل على التجدد. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 238 إلى ص 240. (1) الكشاف 2/338 وانظر تفسير أبي السعود 3/729. (2) تفسير أبي السعود 3/729. (3) تفسير أبي السعود 3/729.