عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ﴿٩٧﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٩٧]
{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)}
{اقْتَرَبَ} أبلغ في القرب من (قرب) (1) فإن افتعل أبلغ من (فعل) كصبر واصطبر، وكسب واكتسب.
{فَإِذَا}
الفاء واقعة في جواب الشرط، و(إذا) للمفاجأة.
والفاء وإذا كل منهما يقع جوابًا للشرط.
قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25].
وقال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].
و(إذا) في الآيتين جواب للشرط.
فإذا اقترنت الفاء بإذا الفجائية كان ذلك أكد. جاء في (الكشاف): "و(إذا) هي إذا المفاجأة، وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء... فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد" (2).
و(هي): ضمير القصة أو ضمير الشأن، ويسمى ضمير القصة إذا كان ما بعدها مؤنثًا. جاء في (البحر المحيط): وضمير ( هي ) للقصة كأنه قيل: فإذا القصة والحادثة أبصار الذين كفروا شاخصة" (3).
وضمير القصة إنما يؤتى به في مواطن التفخيم والتعظيم. فإنه لم يقل: (فإذا أبصار الذين كفروا شاخصة) بل جاء بضمير الشأن لتفخيم الأمر وتعظيمه، فإن الموقف غير مألوف وهو أمر عظيم وأحداثه عظيمة.
و{شَاخِصَةٌ} أي لا تطرف أجفانها "والشخوص إحداد النظر دون أن يطرف" (4).
وقال: {شَاخِصَةٌ} بالاسم لأن ذلك يدل على ثبات الحال ودوامها.
وقدم الخبر {شَاخِصَةٌ} على المبتدأ (أبصار) ولم يقل: (فإذا هي أبصار الذين كفروا شاخصة) للاهتمام وتعظيم الأمر.
وقوله: {يَا وَيْلَنَا} مقول لقول محذوف، أي: يقولون يا ويلنا.
وحذف فعل القول ليكون ذلك مشهدًا حاضرًا مشاهدًا محسوسًا وليس نقلاً عنه، فكأننا نشاهدهم ونسمع قولهم.
{قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}
أي كنا ساقطين في الغفلة تحيط بنا من كل جانب، فإن (في) تفيد الظرفية. جاء في: (التحرير والتنوير): "ودلت (في) على تمكن الغفلة منهم حتى كأنها محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف" (5).
وقال: {فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا }فجاء بـ (من) ولم يقل: (في غفلة عن هذا) للدلالة على أن الغفلة ابتدائية لازمة لهم لا عارضة، أي هم في غفلة دائمة.
أما (عن) فللمجاوزة، قال تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} [النساء: 102] فقال: {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ} فجاء بـ (عن) التي تفيد المجاوزة للدلالة على أن الغفلة عارضة، فهم قد استعدوا للقتال ومعهم أسلحتهم فود الذين كفروا لو يغفلون عنها، بخلاف قوله: {كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} فإن الغفلة هنا لازمة، وأنهم لم يستعدوا للآخرة (6).
وجاء بـ (قد) الدالة على التحقيق والتأكيد.
قد تقول: لقد قال هنا: {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا}
وقال في (ق): {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: ۲۲].
فقال في آية الأنبياء: (قد).
وقال في آية (ق): (لقد) بإدخال اللام على (قد).
فلم ذاك؟
والجواب: إن هذه اللام الداخلة على (قد) هي اللام الواقعة في جواب القسم زيادة في التوكيد، ذلك أن الموقف في سياق آية الأنبياء إنما هو في اقتراب الوعد الحق وليس في حصوله، فهو في علامات الساعة.
وأما ما في (ق) فهو بعد مجيء الساعة وهو من أحداث القيامة. قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 20- 22].
فهو في أحداث القيامة فناسب التأكيد.
{بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}
إضراب عن وصف أنفسهم بالغفلة، أي لم نكن في غفلة منه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر، بل كنا ظالمين بترك الآيات والنذر مكذبين بها، أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب" (7).
لقد قال هنا: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} من دون توكيد.
في حين قال في آية أخرى: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بالتوكيد.
قال تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46].
فقال: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }بالتوكيد، ذلك أن هذه الآية في مسّهم شيء من العذاب، في حين لم يذكر وقوع شيء من العذاب عليهم في الآية الأخرى، فناسب التوكيد في موضعه دون الآية الأخرى.
ونحو ذلك قوله تعالى في آية أخرى من سورة الأنبياء: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14} فأكد ذلك بإن وذلك بعد وقوع العذاب.
قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)}
ونحو ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} فأكد بإن وذلك عند وقوع العذاب. قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}.
ونحوه قوله في سورة القلم: {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29)} وذلك بعد أن أهلك الله جنتهم وأبادها فأصبحت كالصريم بعد أن حرموا منها المساكين.
فالتأكيد إنما يكون بحسب ما يقتضيه المقام.
وهذا من دقيق مراعاة المقام على تباعد المواطن.
إن هذه الآية فيها حشد من الفن كثير، من ذلك:
1- أنه قال: {اقْتَرَبَ} وهو أكد وأبلغ من قرب.
٢- وقال: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} ولم يقل: (واقترب الأمر الحق) لأن هذا مما وعدتهم بهم الرسل وذكرته لهم. ولو قال: (الأمر الحق) لم يدل على أن هذا مما وعدوا به.
3- ووصف الوعد بأنه الحق للدلالة على أنه وحده الحق، وأن كل وعد يخالفه باطل.
٤- وقال: (فإذا) فجاء بفاء الجواب و(إذا) الفجائية للدلالة على تأكيد الأمر.
5- وقال: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} ولم يقل: (فهي شاخصة) للدلالة على سرعة حدوث الأمر.
6- وجاء بضمير القصة فقال: {فَإِذَا هِيَ} للدلالة على تعظيم الأمر وتفخيمه.
7- وقدم الخبر على المبتدأ فقال: {شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} للاهتمام.
٨- وقال: {شَاخِصَةٌ} بالاسم للدلالة على ثبوت ذلك، ولم يقل: (تشخص).
9- وقال: {يَا وَيْلَنَا} فحذف فعل القول، ولم يقل: (يقولون) للدلالة على أن هذا الأمر مشاهد مرئي.
١٠- وقال: {قَدْ كُنَّا} بذكر {قَدْ} للتحقيق والتوكيد.
١١- وقال: {قَدْ كُنَّا }ولم يقل: (لقد كنا) كما قال في (ق) ذلك أن آية الأنبياء في اقتراب الوعد الحق، وآية (ق) في أحداث القيامة وحصول الوعد الحق.
١٢- وقال: {فِي غَفْلَةٍ} ولم يقل: (غافلين) للدلالة على السقوط في الغفلة وإحاطتها بهم.
۱۳- وقال: {مِنْ هَذَا} للدلالة على أن الغفلة ابتدائية لازمة.
14- وقال: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} فذكر صفة الظلم بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت.
١٥- وقال: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} ولم يقل: (إنا كنا ظالمين) لأنه لم يذكر وقوع العذاب عليهم.
في حين قال في مواطن أخرى: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} فأكد الظلم لوقوع العذاب عليهم فصرحوا بالظلم المؤكد.
إلى غير ذلك من الأمور البيانية.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 229 إلى ص 235.
(1) البحر المحيط 6/339.
(2) الكشاف 2/337.
(3) البحر المحيط 6/339.
(4) البحر المحيط 6/340.
(5) التحرير والتنوير 17/151.
(6) انظر معاني النحو – باب حروف الجر (من) 3/331.
(7) روح المعاني 17/93.