عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)}
أي إن عدم الرجوع إلى الحياة الآخرة ممتنع، ومقتضى ذلك أن الرجوع واجب.
إن هذه الآية مناسبة لقوله سبحانه قبل الآية: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93}
ومناسبة لقوله: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}، لأن ذلك إنما يكون في الآخرة.
ولقوله: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} لأن الغرض من كتابة السعي إنما هو للجزاء، وذلك إنما يكون في الآخرة بعد رجوعهم إلى الحياة.
ومناسبة لما بعدها وهو ما ذكره من علامات الساعة وأحداث القيامة ورجوع الناس للحساب.
لقد قال: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} والضمير في (أهلكناها) يعود على القرية. ثم قال بعدها: {أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} فذكر ضمير أهلها، ولم يقل: (أنها لا ترجع) وذلك لأن أهلها هم الراجعون والمجزيون على أعمالهم.
إن القرية تطلق على المساكن والأبنية وهو الأصل، وقد تطلق على أهلها الذين يسكنونها تجوزا.
وقد استعملها القرآن للمعنيين.
قال تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة: 259].
وقال: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40].
وهي هنا للمساكن والأبنية.
وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11].
وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48].
والمقصود بالقرية أهلها فهم الذين ظلموا ثم عاقبهم ربهم.
وقد يذكر القرى ثم يعيد الضمير على أهلها وذلك نحو قوله سبحانه: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59]. فذكر القرى وأعاد الضمير على أهلها فقال: {أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} ولم يقل: (أهلكناها لما ظلمت).
وقد يذكر القرى ثم يذكر أهلها وذلك نحو قوله سبحانه: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
وقد يذكر أهل القرية كما قال تعالى: {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31].
وقال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف: 97].
قد تقول: قد يقول ربنا عن القرية أحيانًا: (أهلكناها) بضمير التأنيث، ويقول أحيانًا عنها: (أهلكناهم) بضمير جمع التذكير مع أن الموطن يبدو متشابهًا.
وذلك نحو قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4].
فقال: {أَهْلَكْنَاهَا}.
وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13].
فقال: {أَهْلَكْنَاهُمْ}
فما الفرق؟
فنقول: إن التأنيث قد يفيد التكثير أو يفيد المبالغة. فإذا عبر بالمفرد المؤنث أفاد كثرة القرى المهلكة، أو أفاد المبالغة والشمول، أي إن التدمير الذي أصابها عام، أصابها وأصاب ساكنيها.
أو لملحظ آخر في السياق.
وذلك نحو قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58].
فأفاد كثرة القرى أن التدمير سيصيبها كلها على العموم والشمول، وربما أفاد إهلاكها وإهلاك من فيها.
ونحو ذلك قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45]. ومعنى (خاوية): ساقطة سقوفها.
وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج: 48].
فكل ذلك يفيد التكثير.
والآن نعود إلى الآيتين اللتين ذكرناهما وهما:
آية الأعراف وهي قوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ}
وآية محمد وهي قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)}
فقال في آية الأعراف: {أَهْلَكْنَاهَا}.
وقال في آية محمد: {أَهْلَكْنَاهُمْ}.
ذلك أن القرى في آية الأعراف أكثر، فقد خصص القرى في آية محمد بالقوة فقال: {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ}، وأطلقها في آية الأعراف فأفاد الكثرة فجاء بضمير المؤنث فيها، والتأنيث قد يفيد الكثرة كما ذكرنا، فناسب كل تعبير موضعه.
هذا إضافة إلى أنه سبق آية محمد ذكر من دمر الله عليهم وهم أهل القرى وساكنوها فقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)}
فناسب ذكر إهلاك أهلها فقال: {أَهْلَكْنَاهُمْ}.
ونحو ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 59].
وقال في سورة الحج: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج: 45].
فقال في آية الكهف: {أَهْلَكْنَاهُمْ}
وقال في آية الحج: {أَهْلَكْنَاهَا}
ذلك أنه قال في آية الحج: {فَكَأَيِّنْ}، و(كأين) تفيد التكثير.
ولم يقل مثل ذلك في آية الكهف.
وأنه قال في آية الكهف: {لَمَّا ظَلَمُوا} بإسناد الظلم إلى جماعة الذكور فناسب ذلك قوله: {أَهْلَكْنَاهُمْ} فإنهم لما ظلموا أهلكهم، في حين أسند الظلم في آية الحج إلى القرية فقال: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} فناسب ذلك قوله: {أَهْلَكْنَاهَا}.
ومن ناحية أخرى أنه قال قبل آية الكهف: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ}
فوصف ربنا نفسه بأنه الغفور ذو الرحمة وأنه لا يؤاخذ الناس بما كسبوا وإلا لعجل لهم العذاب.
فناسب ذلك عدم الكثرة في الإهلاك.
في حين أنه سبق آية الحج ذكر من أخذهم ربنا من الأقوام المهلكة ثم قال: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44].
فناسب التكثير فجاء بضمير المؤنث الدال على الكثرة.
فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 224 إلى ص 228.