عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴿٩٤﴾    [الأنبياء   آية:٩٤]
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)} {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} أي من يعمل بعض الصالحات أو يعمل بعضًا من الصالحات. و(من يعمل بعض الصالحات) أي يعمل عملاً أو أكثر من الصالحة. و(من يعمل بعضا الصالحات) أي يعمل جزءًا من العمل الصالح وإن لم يستوفه كله أو أن يشترك مع جماعة في عمل صالح كأن يشترك مع جماعة لإنقاذ شخص من الغرق أو إطفاء حريق في دار ونحو ذلك. فـ (من) تفيد التبعيض. والكفران هو جحود النعمة وسترها وعدم شكرها. فمعنى (لا كفران لسعيه) أي لا نجحد عمله ولا نحرمه ثوابه. وقال: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} ولم يقل: (لا نكفر سعيه) لأن ذلك أبلغ، فإنه نفى الجنس بـ (لا) فلا يحرمه شيئًا من الثواب. وقال: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}، ولم يقل: (فلا كفران لما عمل) ليدل على أن السعي في الصالحات له أجر وإن لم يفعلها. فإنه إذا سعى ليعمل صالحًا وهو مؤمن كان له في سعيه ثواب حتى وإن لم يتمكن من فعله. فإن السعي في طلب الحسنات له أجره، كما أن السعي في السيئات عليه وزره كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء: 81]. وقال: {وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة: 121]. وقوله: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي مثبتون ذلك في صحيفة عمله لا نترك شيئًا من ذلك. وقال: {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} ولم يقل: (إنا سنكتب عمله) لأن ذلك أكد وأقوى، فقد جاء بالاسم الدال على الثبوت. لقد قال سبحانه فيمن يسعى في عمل بعض الصالحات: لا كفران لسعيه، وأما من سعى فيما هو أعلى من ذلك فقد ذكر أن له الشكر. قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]. فمن أراد الآخرة وسعى حقها من السعي كما ينبغي فقد قال فيه: {كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}. والمشكور: المجزي على عمله مع الإنعام عليه "والشكر من الله المجازاة والثناء الجميل" (1). والفرق ظاهر بين قوله: (لا كفران لسعيه) وقوله: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} فإن قوله: (لا كفران لسعيه) يعني لا نجحد جزاء عمله وإنما نوفيه حقه. وأما قوله: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} فيعني الجزاء والثناء الجميل. وتوضيح ذلك - والله المثل الأعلى - أن الطالب الداخل في الامتحان يعطى على مقدار إجابته لا يحرم من ذلك شيئًا. فإذا أجاب عن سؤال واحد أعطي حقه عن ذلك، وإن أجاب عن أكثر من ذلك أعطي حقه ولا يشكر على ذلك. إذ الشكر إنما يكون على ما هو أعلى من ذلك من الإصابة والإحسان والزيادة في العلم ونحو ذلك. جاء في (الكشاف): "(الكفران) مثل في حرمان الثواب، كما أن الشكر مثل في إعطائه إذا قيل لله: شكور. وقد نفى الجنس ليكون أبلغ من أن يقول: فلا نكفر سعيه. {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي نحن كاتبو ذلك السعي ومثبتوه في صحيفة عمله" (1). وجاء في (تفسير أبي السعود): "{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} تفصيل للجزاء، أي فمن يعمل بعض الصالحات أو بعضًا من الصالحات {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} بالله ورسله {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا حرمان لثواب عمله ذلك. عبر عن ذلك بالكفران الذي هو ستر النعمة وجحودها لبيان كمال نزاهته تعالى عنه... وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى ونفي الجنس للمبالغة في التنزيه. وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به. (وإنا له) أي لسعيه (كاتبون) أي مثبتون في صحائف أعمالهم لا نغادر من ذلك شيئًا" (2). لقد ذكر سبحانه في الآية أن من يعمل الصالحات أو بعضًا منها فلا يكفر سعيه. وأما من عمل الصالحات فله أعلى الجزاء. ولا شك أن من عمل بعض الصالحات ليس كمن عمل الصالحات. قال تعالى فيمن يعمل بعض الصالحات: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}. وقال أيضًا: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [طه: 112]. وهو نظير ما ذكر في آية الأنبياء. وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]. في حين قال فيمن عمل الصالحات: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا} [طه: 75]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 107 - 108]. والفرق ظاهر بين الجزاءين. ومن الملاحظ فيما ورد من القصص القرآني في هذه السورة أنه قال فيه في سيدنا إبراهيم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} نافلة، والنافلة: الزيادة - كما ذكرنا - ويقصد بالنافلة يعقوب وهو ولد إسحاق، فقد وهبه له من غير أن يسأله إياه. ولم يرد قوله: (نافلة) في غير هذا الموضع من قصة سيدنا إبراهيم. ومن المناسب أن نذكر أنه سبحانه ذكر في القصص في هذه السورة ما لم يذكره في مواضع أخرى كما ذكر النافلة في قصة إبراهيم. فقد قال في موسى وهارون: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)} ولم يرد نحو هذا في موضع آخر من قصة موسى وهارون، أعني قوله: الفرقان وضياء وذكرًا للمتقين. وقال في لوط: {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)} ولم يرد نحو هذا في موضع آخر. وقال في نوح عليه السلام: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} ولم يرد نحو هذا فيهما في موضع آخر. وقال في داود وسليمان: { وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا (79)}. ولم يرد نحو هذا فيه في موضع آخر. وقال في أيوب عليه السلام: { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ (84)} ولم يرد نحو هذا فيه في موضع آخر. وقال في يونس عليه السلام: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} ولم يرد نحو هذا فيه في موضع آخر. وقال في زكريا عليه السلام: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ (90) } ولم يرد نحو هذا في موضع آخر. إلى غير ذلك، وهي من المناسبات اللطيفة في جو السورة. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 219 إلى ص 223. (1) لسان العرب (شكر). (2) الكشاف 2/337. (3) تفسير أبي السعود 3/725.