عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿٨٧﴾    [الأنبياء   آية:٨٧]
  • ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ﴿٨٨﴾    [الأنبياء   آية:٨٨]
{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} وردت قصة يونس في أكثر من موضع وهي لم تتكرر شأن القصص القرآني. فقد وردت في سورة يونس والأنبياء والصافات والقلم. أما في يونس فقد وردت الإشارة إلى قومه وإيمانهم في آية واحدة، فذكر ربنا سبحانه أنه استثناهم من سائر القرى والأقوام فقد آمنوا فلم يعذبهم وذلك قوله سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)} ووردت في سورة الأنبياء فلم يذكر دعوته ولا موقفًا له مع قومه سوى أنه خرج مغاضبًا فوقع في غم فدعا ربه فنجاه منه. ولم يذكر ما هذا الغم سوى أنه قال إنه نادى ربه في الظلمات، ولم يذكر ما هذه الظلمات. وهذا ما ورد منها: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88}. ووردت في الصافات وهي أكثرهن تفصيلاً وذكر فيها ما لم يذكره في المواطن الأخرى من أبقه إلى الفلك، أي هرب من غير خوف، وأنه ساهم أي اقترع فلم يفلح في القرعة، وأنه ألقي في البحر فالتقمه الحوت ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء وهو مريض، وأنبت عليه شجرة يقطين وأرسله إلى قومه وذكر عددهم، وأن قومه آمنوا فمتعهم ربهم إلى حين. وهذا ما ورد في الصافات: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآَمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} وأما في سورة القلم فإنه لم يذكر من هذه القصة إلا مخاطبة الله لرسوله أن يصبر وألا يكون احب الحوت إذ دعا ربه وهو مكظوم فتداركته نعمة من ربه فاجتباه ربه فجعله من الصالحين. وهذا ما ورد منها في هذه السورة. {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)} فأنت ترى أنها ليست متطابقة، بل ذكر في كل موضع ما أراد سبحانه أن يركز عليه وما يتناسب مع السياق الذي ورد فيه ذكره. والآن نرجع إلى ما ورد منها في سورة الأنبياء للنظر فيها من الناحية البيانية. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 197 إلى ص 198. {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88 } ورد اسمه عليه السلام وهو يونس في أكثر من موضع. وورد هنا باسم ذي النون، وورد في موضع آخر باسم صاحب الحوت. والنون هو الحوت، وذو النون أي صاحب الحوت. وفرّق النحاة بين (ذو) و(صاحب) أن (ذا) لا تضاف إلى مضمر ولا إلى وصف وإنما تضاف إلى اسم ظاهر غير صفة، وما خالف ذلك فهو نادر (1). وأما (صاحب) فتضاف إلى ظاهر ومضمر، ووصف وغير وصف فتقول: (هو صاحبنا)، وهو صاحب القائمين بالحق، وهو صاحب القائمين بالحق، وهو صاحب الراكع الساجد محمود. والملاحظ في استعمال القرآن لهاتين اللفظتين أنه يستعمل (ذا) للعاقل وغيره، ولم يستعمل كلمة (صاحب) إلا للعاقل. قال سبحانه: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12]. وقال: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14]. وقال: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37]. وهي هنا لغير العاقل. وقال: {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]. وقال: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16]. وقال: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280]. وهي هنا للعاقل. ومن الأعلام المصدرة بذي في القرآن (ذو القرنين) و(ذو الكفل). أما (صاحب) فلم ترد إلا للعاقل: مفردة أو مثناة أو مجموعة، (كصاحب الحوت)، وقوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]، وقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22]، وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ} [التوبة: 40]، وقوله: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [يوسف: 39]. ونحو أصحاب الجنة وأصحاب النار وأصحاب الحجر وأصحاب مدين وأصحاب موسى وغير ذلك. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه لم يرد من هاتين الكلمتين وصف له سبحانه إلا كلمة (ذي) نحو: (والله عزيز ذو انتقام) و(ذو العرش المجيد) و(ذو رحمة واسعة) و(ذو فضل على الناس) و(ذو الجلال والإكرام) و(ذو عقاب أليم). والذي يبدو من استعمال هاتين اللفظتين أن (ذا) كأنها تستعمل أحيانًا أخص وألصق فلا يصح أو لا يحسن استعمال (صاحب) محلها وذلك نحو قوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} فلا يحسن أو لا يصح أن يقال: (في يوم صاحب مسبغة). وقوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} وقوله: {قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} وقوله: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} فإنه لا يصح استعمال (صاحب) مكانها. ولا يصح في نحو قولك: (الدواء ذو مرارة) أن يقال: (الدواء صاحب مرارة). إن لفظة (صاحب) قد تفيد المصاحبة، وأما (ذو) فإنها قد تكون لما هو من صفات الشيء أو خصوصياته. فقولك مثلاً: (هو صاحب أبي بكر) أن يقال بدله: (هو ذو أبي بكر)، ولا يصح في قولك: (هو لا يصح صاحب زيد) أن يقال: (هو ذو زيد). وكذلك في أسماء الأعلام نحو (ذي القرنين) فلا يصح أن يقال فيه: (صاحب القرنين). ونحوه: ذو يزن، وذو رعين، وذو نواس، وذو الكلاع، وهي ألقاب لبعض من ملوك اليمن التبابعة (2) وأما بالنسبة لاستعمال هذين الاسمين لسيدنا يونس عليه السلام فالذي يبدو - والله أعلم - أنه استعمل ذا النون فيما هو أمدح له. ذلك أنه استعمل (صاحب الحوت) في مقام النهي عن أن يكون رسول الله  مثله في قلة صبره، قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ}. وأما اسم (ذي النون) فاستعمله في مقام تسبيحه واعترافه بظلمه لنفسه واستجابة ربه لدعائه، ثم قال: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي إذا وقعوا في غم فسبحوا ربهم أنجاهم ربهم سبحانه كما نجي ذا النون، فإن التسبيح ينجي من الغم ومدعاة لإجابة دعائهم. ولقد طلب سبحانه من نبيه عليه السلام عندما ضاق صدره بما يقول قومه أن يسبح بحمد ربه فقال له: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)} [الحجر: 97 – 98]. وقال له أيضًا: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]. وقال في ذي النون: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144]. جاء في (الإتقان) للسيوطي: "قال السهيلي: الوصف بـ (ذو) أبلغ من الوصف بصاحب، والإضافة بها أشرف. فإن (ذو) يضاف للتابع و(صاحب) يضاف إلى المتبوع، تقول: أبو هريرة صاحب النبي، ولا تقول: النبي صاحب أبي هريرة. وأما (ذو) فإنك تقول: ذو المال وذو العرش، فتجد الاسم الأول متبوعًا غير تابع. وبني على هذا أنه تعالى قال في سورة الأنبياء: (وذا النون) فأضافه إلى النون وهو الحوت. وقال في سورة (نون): {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}، قال: والمعنى واحد ولكن بين اللفظين تفاوت كثير في حسن الإشارة إلى الحالين. فإنه حين ذكره في معرض الثناء عليه أتى بـ (ذي) لأن الإضافة بها أشرف وبالنون لأن لفظه أشرف من لفظ الحوت لوجوده في أوائل السور، وليس في لفظ الحوت ما يشرفه بذلك، فأتى به وبصاحب حين ذكره في معرض النهي عن اتباعه" (3). {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي ذهب غاضبًا على قومه لعدم استجابتهم له من دون أن يأذن الله له بذلك فتركهم ليدعو إلى دين الله في مكان آخر، وظن أن ذلك يسوغ له وأن الله لن يضيق عليه وأن في الأمر سعة. ومعنى (لن نقدر عليه ) لن نضيق عليه كقوله تعالى: {اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26]، وقوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 16]. جاء في (الكشاف): "(النون): الحوت، فأضيف إليه. برم بقوله لطول ما ذكرهم فلم يذكروا وأقاموا على كفرهم فراغمهم وظن أن ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضبًا لله وأنفة لدينه وبغضًا للكفر وأهله. وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله في المهاجرة عنهم فابتلي ببطن الحوت... (فقدر عليه) فسرت بالتضييق عليه" (4). {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} الفاء فصيحة أفصحت عن المحذوف وهو ما كان من المساهمة وهي الاقتراع وإلقائه في البحر والتقام الحوت له. أي ركب الفلك فساهم فدحض في المساهمة ولم يفلح، فألقي في البحر فالتقمه الحوت فنادى ربه. جاء في (روح المعاني): "(فنادى) الفاء فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقام الحوت فنادى. (في الظلمات) أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت جعلت الظلمة لشدتها كأنها ظلمات... أو الجمع على ظاهره والمراد ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل" (5). وقوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} إقرار بظلمه لنفسه. وقال: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فوصف نفسه بالظلم الثابت فجاء بالصيغة الاسمية، ذلك أنه استعظم ما فعله من غير إذن ربه له. جاء في (التحرير والتنوير) في قوله: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} "مبالغة في اعترافه بظلم نفسه" (6). ولعل في هذا الترتيب إشارة إلى ما يحسن بالداعي أن يفعله وهو البدء بالثناء على الله ثم يدعو بحاجته والله أعلم. والمقصود بالنداء هنا الدعاء، بدليل قوله سبحانه: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} ذكرنا في موضع سابق من السورة مجيء التنجية بالواو ومجيئها بالفاء، ومنها ما ورد في هذه الآية فلا نعيد القول فيه. ومن الملاحظ أن قال: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} فقال أولاً: (نجيناه) ثم قال: (وكذلك ننجي). و(ننجي) مضارع (أنجي - أنجينا). فاستعمل (نجى) أولاُ، واستعمل (أنجى) بعد ذلك. وقد ذكرنا في أكثر من موضع أن (نجى) يفيد التلبث والتمهل في التنجية، وأن (أنجى) يفيد الإسراع فيها. فإن (أنجى) أسرع من (نجى) في التخليص من الشدة والكرب (7). فاستعمل (نجى) الذي يفيد المكث والتلبث مع رسوله، واستعمل (أنجى) الذي يفيد الإسراع في النجاة مع المؤمنين، ذلك لأن الرسل أعظم صبرًا من عامة المؤمنين. ولذلك قال: (ننجي) مع المؤمنين، أي يخلصهم ربنا مما هم فيه بسرعة لأنهم ليس لهم صبر كصبر الرسل. وهذا من لطف الله بهم ورحمته لهم. ونحو ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 103]. جاء في (نظم الدرر): "ذكر التنجية أولاً يدل على مثلها ثانيًا، وذكر الإنجاء ثانيًا يدل على مثله أولاً. وسر ذلك الإشارة إلى شدة العناية بالمؤمنين؛ لأنهم ليس لهم كصبر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أشار إليه بحديث: (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل) (يبتلى المرء على قدر دينه) فيسلّهم سبحانه من البلاء كما تسلّ الشعرة من العجين، فيكون ذلك مع السرعة في لطافة وهناء" (8). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 198 إلى ص 205. (1) انظر شرح الأشموني 1/73، شرح التصريح 1/63. (2) انظر (لسان العرب) (ذو) 20/345. (3) الإتقان في علوم القرآن 2/292 – 293 وانظر البرهان في علوم القرآن للزركشي 4/279. (4) الكشاف 2/335. (5) روح المعاني 17/84، وانظر فتح القدير 3/410ـ ابن كثير 3/192. (6) التحرير والتنوير 17/132. (7) انظر كتابنا (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) ص 74 وما بعدها. (8) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور 12/467.