عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴿٨٣﴾    [الأنبياء   آية:٨٣]
  • ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ﴿٨٤﴾    [الأنبياء   آية:٨٤]
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} لقد ذكر أيوب بعد ذكر سليمان في هذه السورة وفي سورة (ص) فذكر الغني الشاكر وهو سيدنا سليمان، وأتبعه بذكر المبتلى الصابر وهو سيدنا أيوب. فجمع بين الحالتين في الابتلاء: الابتلاء بما يقتضي الشكر، والابتلاء بما يقتضي الصبر. فإن الابتلاء ما يقتضي الشكر كما قال تعالى على لسان سيدنا سلميان: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]. ومنا ما يقتضي الصبر كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]. {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي واذكر أيوب إذ نادى ربه. وقد صرح بالفعل (اذكر) في هذه القصة في سورة (ص) فقال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)} والملاحظ أنه لم يذكر الفعل (اذكر) فيما ورد من قصص الأنبياء في سورة الأنبياء، بل يذكرهم على تقدير الفعل وذلك قوله: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ}، وقوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}، وقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ}، وقوله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ}، وقوله: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا}، وقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ}، وقوله: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}. وهو يذكر الفعل فيما ورد في القصص في سورة (ص) ابتداء من قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ (17)}، وقوله: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ (41)}، وقوله: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ (45)}، وقوله: { وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ (48)}. ومن لطيف التناسب أن سورة (ص) تبدأ بقوله: {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ} فكان من ذلك أن ذكرهم بالفعل (اذكر). وختم هذه الآيات بقوله: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49)}. ومن لطيف ذلك أيضًا أن يذكر الذكر والتذكر وما إلى ذلك في التعقيب على كل قصة من هذه القصص أو في أثنائها. فقد قال بعد قصة سيدنا داود: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}. وقال على لسان سيدنا سليمان: { إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي (32)} وقال في أيوب عليه السلام: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)} وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)} وقال بعد أن ذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل: {هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآَبٍ (49)}. وختم السورة بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87)} وهذا من لطيف التناسب. {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} الضر بالضم: كل ما كان من سوء حال وفقر وشدة في بدن. والضر بالفتح ضد النفع (1). و(رحمة) مفعول لأجله، والرحمة هي لأيوب ولكل عابد، والذكرى لغيره (رحمة) من العابدين ليتعظ ويتذكر فيصبر إذا أصابه ضر فتدركه رحمة ربه فيثاب ثوابًا مضاعفًا. جاء في (الكشاف): "ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة، وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب... {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} لرحمتنا العابدين وأنا نذكرهم بالإحسان لا ننساهم، أو رحمة منا لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر حتى يثابوا كما أثيب في الدنيا والآخرة" (2). وقال ههنا: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} ويقول في مواضع أخرى: {رَحْمَةً مِنَّا}. والملاحظ في القرآن أنه يستعمل {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} للمؤمنين خاصة. وأما {رَحْمَةً مِنَّا} فيستعملها عامة للمؤمن وغيره. قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)}. جاء في (البرهان في متشابه القرآن) للكرماني: "وقال: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} لأن (عندنا) حيث جاء دل على أن الله سبحانه تولى ذلك من غير واسطة" (3). وقد بينا ما ورد من التشابه والاختلاف في هذه القصة في سورتي الأنبياء و(ص) في شرحنا لقوله تعالى في سورة يس: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 43 - 44]. فلا نعيد القول فيه (4). ومن الملاحظ أنه قال تعالى هنا: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا} فقال: (فكشفنا) بالفاء. ونحو ذلك قوله تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الأنبياء: 76]. وقد يأتي بعد الاستجابة بالواو وذلك نحو قوله تعالى في يونس عليه السلام: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وقوله في زكريا عليه السلام: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} ومن المعلوم أن الفاء تفيد التعقيب والترتيب، وأما الواو فلمطلق الجمع، فلم الاختلاف؟ فنقول: إن كل تعبير ناسب موضعه الذي ورد فيه. فإنه ذكر في نوح أن كربه عظيم فقال: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}، والكرب العظيم يستدعي الإسراع في النجاة. وقد تقول: لكنه وصف كربه بأنه عظيم في موضع آخر ولم يأت بالفاء بل جاء بالواو وذلك قوله تعالى في سورة الصافات: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77)} فما الفرق؟ فنقول: لقد ذكر في الأنبياء أمرين كل منهما يستدعي النجاة وهما الكرب العظيم وإساءة قومه إليه، قال تعالى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} فذكر أمرين. وأما في الصافات فذكر أمرًا واحدًا ولم يذكر قومه فناسب الإسراع في النجاة في الأنبياء. وقال في أيوب إنه دعا ربه بذكر أعلى صفات الرحمة فقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. وسعة الرحمة تستدعي الإسراع في النجاة. وأما يونس فقد فعل ما هو خلاف الأولى، فقد ذهب مغاضبًا قومه من دون أن يأذن له سبحانه بذاك. وأقر بظلمه لنفسه قائلاً: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، وليس من ظلم نفسه كمن لم يظلم نفسه. ولذا ذكره في موضع آخر أنه سبحانه نبذه بالعراء وهو سقيم وأنبت عليه شجرة من يقطين {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات: 145 - 146]. وقال سبحانه لنبيه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 48 -49]. فلم يأت بالفاء الدالة على التعقيب. وأما ما فيه زكريا عليه السلام فإنه ليس ككرب نوح ولا كضر أيوب، والأمر فيه سعة. ولا شك أنه وهب له يحيى بعد حمل أمه له. فلم يستدع ذلك التعقيب بالفاء، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 191 إلى ص 195. (1) انظر لسان العرب (ضرر). (2) الكشاف 2/330 وانظر البحر المحيط 6/334. (3) البرهان 243. (4) انظر (على طريق التفسير البياني – ج2) سورة يس 2/205 وما بعدها.