عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ﴿٨٢﴾    [الأنبياء   آية:٨٢]
{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)} جمع الفعل (يغوصون) حملاً على معنى (من) في هذه الآية. وقال في (سبأ): {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} بإفراد الفعل (يعمل). ذلك - والله أعلم - أنه ذكر في الأنبياء أنهم يغوصون ويعملون عملاً دون ذلك، فذكر الغوص والعمل. وذكر في سبأ العمل ولم يذكر الغوص، وقد ذكر أنواعًا من العمل. والغوص والعمل أكثر من العمل وحده، فناسب الجمع في آية الأنبياء، والذي يبدو - والله أعلم - أنهم صنفان: غواص وعامل كما قال سبحانه: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)} جاء في (فتح القدير): {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} أي كل بناء منهم وغواص منهم يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر فيستخرجون له الدرر منه" (1). وإذا كان الأمر كذلك فقد ناسب الجمع في الأنبياء من جهة أخرى ذلك لأنهم أكثر فمنهم غواصون ومنهم عاملون. وأما في سبأ فقد ذكر الذين يعملون ولم يذكر الذين يغوصون. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ذكر في سبأ أن من الجن من يعمل بين يديه، فذكر مكان العمل، وأطلقه في الأنبياء فقد يكون منهم من يعمل بين يديه، ومنهم من يعمل في أمكنة أخرى يحددها لهم. فهم أكثر. فناسب جمع الفعل في الأنبياء وإفراده في سبأ من ناحية أخرى. وقد تقول: ولم ذكر الشياطين في الأنبياء، وذكر الجن في سبأ؟ فنقول: لقد قال في سياق القصة في سبأ: {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} فذكر الجن وعدم علمهم بالغيب، والجن أعم من الشياطين وأكثر. فإن الجن يعم الكافر والمؤمن منهم، وأما الشياطين فهم كفرة الجن، فناسب نفي علم الغيب عمن هم أكثر وأعم. وقال في سبأ أيضًا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}. فذكر الجن على العموم من دون تخصيص الشياطين بالعبادة. فناسب ذكر الجن في سبأ. وليس في الأنبياء نحو ذلك. فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه. {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أي حافظين من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد في الجملة فيما هم مسخرون فيه (2). وقيل: (حافظين) حتى لا يهربوا (3) أو ما نعينهم من الناس (4). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 188 إلى ص 190. (1) فتح القدير 4/45. (2) الكشاف 2/334. (3) البحر المحيط 6/333. (4) التحرير والتنوير 17/125.