عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ ﴿٨١﴾    [الأنبياء   آية:٨١]
{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)} ورد هذا الجانب من قصة سليمان في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم: في الأنبياء وسبأ و(ص). غير أنها لم تكن متطابقة بل قد يذكر في موضع ما لا يذكره في الموضع الآخر. فقد قال في سبأ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)} وقال في (ص): {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)} ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 183 إلى ص 184. ومن النظر في هذه النصوص يتضح أنها غير متطابقة، فقد يفصّل في جانب ويجمل في جانب، ويذكر أمرًا في موضع ولا يذكره في موضع آخر، وغير ذلك من الأمور. وهو شأن القصص القرآني فإنه لا يعيد القصة نفسها من دون تغيير في تعبير أو زيادة أو إجمال ونحو ذلك. وقد بينا في تفسيرنا لسورة هود طرفًا من ذلك. ومن بين هذه الأمور: 1- أنه ذكر الريح عاصفة في الأنبياء، وذكرها رخاء في ص، وذكرها مطلقة في سبأ. ٢- ذكر غاية جريان الريح في الأنبياء وهي الأرض التي بارك فيها، وذكر في سبأ مدة غدوها ومدة رواحها {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}. وأطلق ذلك في (ص) فلم يذكر شيئًا من ذلك، وإنما قال: {حَيْثُ أَصَابَ} 3- لم يذكر زيغ الشياطين في الأنبياء وإنما قال: {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}. وقال في سبأ إنه من يزغ عن أمره يذقه من عذاب السعير، ومعنى ذلك أنهم مطلقون غير مقيدين. وذكر في (ص) أن منهم مقرنين في الأصفاد، وكأن ذلك لمن زاغ منهم أو حاول أن يزيغ. 4- ذكر في الأنبياء أن من الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك، ولم يذكر ما العمل. وفي سبأ ذكر جملة مما يعملونه فقال: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}. ولم يذكر في (ص) لهم عملاً، وإنما ذكر وصفهم فقال: {كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}. 5- ذكر الشياطين في الأنبياء و ص، وذكر الجن في سبأ. 6- ذكر في سبأ موت سليمان وعدم علم الجن بموته حتى خر بعدما أكلت دابة الأرض وهي الأرضة عصاه. إلى غير ذلك من الأمور. ونعود إلى بيان شيء من الأمور البيانية في آيتي الأنبياء. { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} أي وسخرنا لسليمان الريح بالعطف على الجبال في قوله: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ}، وكما في قوله: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ} [ص: 36]. وعدّى التسخير مع الريح باللام فقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} وعداه مع الجبال بـ (مع) فقال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ}وذلك للفرق بين التسخيرين. فإن تسخير الريح غير تسخير الجبال. فإن الريح تجري بأمره كما يريد من العصف والرخاء وإلى حيث يريد، بخلاف تسخير الجبال فإنها مسخرة في التسبيح مع داود عليه السلام وليس كتسخير الرياح لسيدنا سليمان. جاء في (تفسير أبي السعود) في قوله: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ}: "أي وسخرنا له الريح. وإيراد للام ههنا دون الأول للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت. فإن تسخير ما سخر له عليه السلام من الريح وغيرها كان بطريق الانقياد الكلي له والامتثال بأمره ونهيه والمقهورية به تحت ملكوته. وأما تسخير الجبال والطير لداود عليه السلام فلم يكن بهذه المثابة بل بطريق التبعية له عليه السلام والاقتداء به في عبادة الله عز وعلا" (1). وقال هنا إنه سخر له الريح عاصفة، وذكر في (ص) أنه سخرها له رخاء، فذكر مرة أنها عاصفة، وذكر مرة أخرى أنها رخاء، وذلك بحسب ما يريد. جاء في (البحر المحيط): "ووصفت هذه الريح بالعصف وبالرخاء، والعصف الشدة في السير، والرخاء اللين. فقيل: كان ذلك بالنسبة إلى الوقت الذي يريد فيه سليمان أحد الوصفين... والأرض أرض الشام... وقيل: أرض فلسطين" (2). ومن الملاحظ أنه قال هنا: {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} وقال في الآية الحادية والسبعين من هذه السورة: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} فذكر أنها للعالمين. ولم يقل ذلك في هذه الآية، ذلك أن الآية السابقة إنما هي في ذكر الرسالات فقد ذكر إبراهيم ولوطاً وذكر إسحاق ويعقوب ثم قال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ}. فذكر أنه جعلهم أئمة يهدون بأمر الله وأنه أوحى إليهم فعل الخيرات. والهداية إنما هي للعالمين فناسب أن يقول: {بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}وذلك لأن إرسال الرسالات والهداية إنما هي لهم. وليس في الآية الأخرى مثل ذلك، وإنما هي الريح تجري بأمر سليمان كما يريد. فناسب كل تعبير موضعه. ومن لطيف التناسب أنه ذكر في الأنبياء أن الريح عاصفة، وذكر في (ص) أنها رخاء. وكل وصف وضع في مكانه من حيث السياق. فقد ذكر في الأنبياء أنها عاصفة مناسبة لما قبلها وهو قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ}، والبأس هي الحرب، والحرب عاصفة. وقوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} يعني نوحًا عليه السلام، وقد كان بين نوح وقومه عصف وشدة مدة طويلة. وذكر المخاصمة بين أصحاب الحرث والغنم وهي خصومة وشدة. فناسب ذكر العصف. وأما في (ص) فذكر أنه عرض على سليمان بالعشي الصافنات الجياد، فقد قال: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)} والصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها، فهو يقف على ثلاث قوائم وقد أقام الرابعة على طرف الحافر (3). فالخيل هنا واقفة. وقال: {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] وأيا ما كان معنى المسح فإنها تعني أنها في حالة سكون ووقوف. وقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)} والجسد لا يتحرك. فناسب ذكر الرخاء. وهو تناسب لطيف في اختيار اللفظة مع السياق الذي وردت فيه. {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} أحاط علمنا بكل شيء فنجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا وحكمتنا" (4). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 184 إلى ص 188. (1) تفسير أبي السعود 3/719 – 720 وانظر روح المعاني 17/77. (2) البحر المحيط 6/332. (3) انظر لسان العرب (صفن)، روح المعاني 23/190. (4) الكشاف 2/334 – 335.