عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ﴿٧٦﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٧٦]
- ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴿٧٧﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٧٧]
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)}
انتصب (نوحًا) على إضمار (اذكر) (1)، وقيل: هو معطوف على (لوطًا) "فيكون ذلك مشتركًا في العامل الذي هو آتينا" أي آتينا نوحًا حكمًا وعلمًا (2).
و(من قبل) أي من قبل هؤلاء المذكورين (3).
و(نصرناه) من القوم، أي نجيناه منهم.
وقوله: (فاستجبنا) بالفاء يدل على تعقيب الاستجابة بعد النداء.
ومن الملاحظ في هذه الآية أنه ذكر الفعل (نادى) ولم يذكر مفعوله، فلم يذكر من نادى ولا بماذا دعا.
ولكن علم من قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أنه نادى ربه.
وعلمنا من الاستجابة فحوى الدعاء وهو نجاته وأهله ونصره وإهلاك قومه الكافرين.
فقد قال في موضع آخر: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 118] فدعا بالنجاة.
وقال: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنون: 26].
وقال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10].
فدعا بالنصر.
وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
فدعا على قومه بالهلاك.
وأمره ربه أن يحمل معه في الفلك فيما يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]
فدل ذلك على نجاة أهله.
فكانت الاستجابة لكل ذلك.
فقال: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}، وهو إجابة الدعاء بالنجاة.
وقال: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا}، فكانت الاستجابة بالنصر.
وقل: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}، فكانت الاستجابة بإهلاك الكفرة.
جاء في (تفسير الرازي): "لا شبهة في أن المراد من هذا النداء دعاؤه على قومه بالعذاب، ويؤيده حكاية الله تعالى عنه ذلك تارة على الإجمال وهو قوله: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، وتارة على التفصيل وهو قوله: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26].
ويدل عليه أيضًا أن الله تعالى أجابه بقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}، وهذا الجواب يدل على أن الإنجاء المذكور فيه كان هو المطلوب في السؤال. فدل هذا على أن نداءه ودعاءه كاف بأن ينجيه مما يلحقه من جهتهم من ضروب الأذى بالتكذيب والرد عليه، وبأن ينصره عليهم وأن يهلكهم فلذلك قال بعده: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} (4).
لقد قال في هذه الآية: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى} ولم يذكر أنه نادى ربه كما أسلفنا.
وقال في الصافات: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)}
فقال: (نادانا) بذكر المفعول به وهو ضمير العظمة.
ومن المناسب أن نذكر أنه لما قال: (نادانا) فأظهر ذاته سبحانه زاد في تفضله عليه بالإجابة. قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ (82)}
فقال: {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} فأثنى على ذاته سبحانه.
ثم تفضل على نوح بما لم يذكره في سورة الأنبياء، فقال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ}
وقال: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ}
وقال: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}
وقال: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ}
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن ضمير العظمة ورد في آيات الصافات أكثر مما ورد في هذه القصة في سورة الأنبياء.
فإنه ورد في الأنبياء خمس مرات، وذلك في قوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} {فَنَجَّيْنَاهُ} {وَنَصَرْنَاهُ} {بِآَيَاتِنَا} {فَأَغْرَقْنَاهُمْ}
وورد في آيات الصفات ثماني مرات. وذلك في قوله: {نَادَانَا} {وَنَجَّيْنَاهُ} {وَجَعَلْنَا} {وَتَرَكْنَا} {إِنَّا كَذَلِكَ} {نَجْزِي} {عِبَادِنَا} {أَغْرَقْنَا}.
فناسب ذلك افتتاح الآيات في الصافات بقوله: {وَلَقَدْ نَادَانَا}
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 174 إلى ص 177.
(1) البحر المحيط 6/330.
(2) انظر البحر المحيط 6/330.
(3) الكشاف 2/333.
(4) تفسير الرازي – المجلد 8/162.