عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ ﴿٧٤﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٧٤]
- ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿٧٥﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٧٥]
{وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)}
انتصب (لوطًا) على الاشتغال، أي آتينا لوطًا حكمًا وعلمًا.
وقيل: يحتمل أن يكون منصوبًا بـ (اذكر) مقدرًا (1).
والحكم معناه العلم والفقه، وقد يأتي بمعنى القضاء، ومنه الحكم بين المتخاصمين (2)...
جاء في (الكشاف): "(حكمًا) حكمة وهو ما يجب فعله، أو فصلاً بين الخصوم، وقيل: هو النبوة " (3).
وهو هنا ليس بمعنى القضاء والفصل، وإنما معناه الفقه والحكمة.
وقد استعمل القرآن في الحكم الإيتاء أو الهبة وذلك نحو قوله تعالى: {وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، وقوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22]، وقوله: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} [الشعراء: 21].
ولم يأت الحكم مسندًا إلى الله إلا بلفظ الإيتاء أي نحو (آتيناه حكمًا وعلمًا)، فالحكم مما يؤتيه الله سبحانه، ولم يرد نحو (وهبنا له حكمًا) ولا (وهب الله له حكمًا).
وقد ذكرنا الفرق بين الإيتاء والهبة في شرحنا لسورة (يس) في تعرضنا لقصة أيوب مما استدعاه السياق فلا نعيد القول فيه (4).
{وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ}
استعمل ههنا لفظ (نجيناه) ولم يستعمل (أنجيناه).
ومن الملاحظ في استعمال هاتين اللفظتين في هذه القصة أنه يقول أحيانًا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الأعراف: 83، النمل: 57].
ويقول أحيانًا: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الشعراء: 170] {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ} [الصافات: 134].
وقد بينا في كتابنا: (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) أن (نجى) يستعمل في القرآن الكريم للتلبث والتمهل في التنجية، وأن (أنجى) يستعمل للإسراع فيها، فإن (أنجى) أسرع من (نَجَّى) في التخلص من الشدة والكرب (5).
ومن الملاحظ في استعمال هذين الفعلين في هذه القصة أن ما يستدعي الإسراع في التنجية يستعمل معه الفعل (أنجينا).
وما كان دون ذلك يستعمل (نجينا).
وإيضاح ذلك أنه استعمل (أنجيناه) في هذه القصة في موضعين وهما قوله تعالى في الأعراف:
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}
وقوله في (النمل): {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)}
واستعمل (نجيناه) علاوة على ما ورد في سورة الأنبياء في موضعين هما قوله تعالى في الشعراء: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)}.
وقوله في الصافات: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ (136)}.
ومن الواضح أن ما في الأعراف والنمل أدعى إلى الإسراع في النجاة وعدم التلبث مما في الشعراء والصافات.
ذلك أنه قال في الأعراف على لسان قومه: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)}
وقال في النمل: {أَخْرِجُوا آَلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}
فأمروا بإخراجهم من القرية.
وليس في الشعراء نحو ذلك، وإنما هددوه بالإخراج إن لم ينته {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ}
فمرحلة ما في الأعراف والنمل بعد ما في الشعراء.
ففي الشعراء هددوه بالإخراج إن لم ينته.
وأما في الأعراف والنمل فقد أمروا بإخراجه، ومعنى ذلك أنه لم ينته.
فاستدعى الإسراع في النجاة في الأعراف والنمل.
وأما في الصافات فليس فيه نحو ذلك، وليس فيه تهديد له من قومه.
فناسب الإسراع في النجاة في الأعراف والنمل.
وليس في آية الأنبياء شيء من ذلك فلم يستدع الإسراع.
وهناك ملاحظة أخرى في هذه القصة:
وهي أنه ذكر في هذا الموضع من سورة الأنبياء نجاته وحده ولم يذكر نجاة أحد معه، وذلك أن الكلام عليه وتفضل الله عليه وليس على رسالته وموقفه مع قومه.
وفي مواضع أخرى يذكر نجاته وأهله إلا امرأته وذلك كما في الأعراف والنمل والشعراء والصافات وذلك في مقام الرسالة والدعوة.
وقد تقول: ولكنه قال في الصافات: {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} وليس ذلك في مقام الدعوة، فقد قال تعالى: {وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134)} ولم يذكر دعوته لقومه.
فنقول: إنه قال إن لوطًا لمن المرسلين، والرسالة تقتضي التبليغ والدعوة. فناسب ذكر نجاته وأهله وتدمير الآخرين. وليس في سياق آية الأنبياء نحو ذلك.
وقد يذكر نجاة آله ولم يذكر نجاته معهم وذلك ما ورد في سورة القمر، فقد قال سبحانه: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آَلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)}.
ونجاته مفهومة من السياق، فإنه هو الذي أنذرهم البطشة، ثم ذكر أن العذاب إنما أصاب قوم لوط فدل على نجاته هو. ثم إن قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} يدل على نجاة من شكر دون من لم يشكر.
وهذا هو السياق فيما ورد عن الرسل في سورة القمر، فإنه لم يذكر نجاة الرسل ولا من آمن معهم.
فقد ذكر عادًا وإهلاكهم ولم يذكر نجاة المؤمنين ولا رسوله. ونحو ذلك ورد في ثمود، وكذلك ما ورد في آل فرعون.
فهي كلها تجري على نسق واحد.
قد تقول: ولكن الأمر ليس كذلك في قصة نوح فقد ذكر نجاته، فقد قال فيه: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)}
فلم ذاك؟
فنقول إن السياق اقتضى ذلك من أكثر من جهة.
1- فقد قال في قصة نوح: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)}
فذكر أنهم كذبوا عبده، أي كذبوا نوحًا، ولم يذكر مثل ذلك الأخرى.
وإنما قال في قصة عاد: {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18)} ولم يذكر تكذيبهم لرسوله.
وقال في قصة ثمود: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23)} ولم يذكر التكذيب لرسولهم.
وقل في قوم لوط: { كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33)} وهو نحو ما ورد في ثمود.
وقال في فرعون: {وَلَقَدْ جَاءَ آَلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا} فذكر التكذيب بالآيات.
2- ثم ذكر في قصة نوح أنهم زجروا نوحًا فقد قال: {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)}
وقوله: (ازدجر) يعني المبالغة في الزجر.
فناسب ذكر نجاته.
3- ثم ذكر أنه دعا ربه فقال إنه مغلوب وطلب من ربه أن ينصره فقال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)}
فناسب ذلك إجابة دعائه وأن ينصره فقال: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)}
ولم يرد نحو ذلك في القصص الأخرى.
فناسب كل تعبير موضعه.
وهذا من لطيف مراعاة المقام.
قد تقول: ولكنه ذكر نجاة آل لوط وحدهم في القمر ولم يذكر نجاة أهل الآخرين المذكورين في السورة. فنقول: لقد ذكر قصة نوح في السورة ونجاته.
وأما عاد وثمود فلم يرد لأهلهما ذكر في جميع ما ورد في القرآن الكريم فلم يذكرهما في سورة القمر.
وقد ذكر آل فرعون في القمر كما ذكر آل لوط، غير أنه ذكر نجاة آل لوط وعقوبة آل فرعون.
ومن الملاحظ في قصة لوط أنه أحيانًا يذكر أنه نجاه وأهله إلا امرأته كما في سورتي الأعراف 83 والنمل 57 فيذكر امرأته.
وأحيانا يقول: (إلا عجوزًا) فيذكر العجوز ولم يذكر أنها امرأته (انظر الشعراء ۱۷۱، الصافات 135).
فإنه حيث يقول: (أنجيناه) يستثني امرأته، وحيث يقول (نجيناه) يستثني العجوز.
وقد ذكرنا أنه حيث استدعى الإسراع في النجاة يقول: (أنجينا) وما كان دون ذلك يقول: (نجينا).
ومن المعلوم أن المرأة إنما تكون في بيت زوجها فأصبح الخطر أشد؛ لأن الخطر إنما جاء من الخارج ومن الداخل، فهي عين لقومها عليه، فكأنها من المخابرات تخبر قومها عما في بيت زوجها، وهذه إشارة إلى أنه إذا لم يأمن الرجل أهل بيته كان الخطر عليه أعظم.
فاستدعى ذلك الإسراع في النجاة إضافة إلى ما ذكرنا.
وأما قوله: (إلا عجوزًا) فهو لم يذكر أنها امرأته، ثم ذكر أنها عجوز، ولا شك أن العجوز أقل حركة من الشابة.
فلم يدل بقوله: (عجوز) أنها امرأته، إضافة إلى أنها عجوز. كما أن المقام لا يستدعي الإسراع في النجاة فكان الخطر أقل.
فناسب كل تعبير موضعه من جهة أخرى.
وهذا من عجيب مراعاة المقام.
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ}
السَّوء بفتح السين هو المصدر، والسُّوء بالضم الاسم (6).
فالسوء بالضم حالة من حالات السَّوء بالفتح، فقد يكون مرضًا أو غير ذلك مما يصيب الإنسان من مكروه في ماله أو بدنه.
قال تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12].
أي من غير برص (7).
وقال: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف: 73].
وقال: { وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا (30)}
فالسَّوء أعم من السُّوء.
وقد أضاف القوم إلى السَّوء للمبالغة في ذمهم.
{وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا}
أضاف الرحمة إليه سبحانه للدلالة على عظيم ما أدخله فيه من الرحمة.
فإنه يذكر أحيانًا أنه يُدخل في رحمته.
وقد يذكر أنه يدخل في رحمة منه.
ولا شك أن قوله: (في رحمته) أعلى من (في رحمة منه) وأدل على سعة الرحمة. فإن قوله: (في رحمة منه) نكرة وهي جزء من رحمته سبحانه.
وكل ذلك بحسب السياق.
قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية: 30].
فقال: {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}
وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175].
فقال: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ}
ذلك أن ما ذكره في آية الجاثية أعلى. فقد ذكر الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
فذكر الإيمان على العموم، وهو أعم من الإيمان بالله.
وذكر عمل الصالحات ولم يذكر ذلك في آية النساء.
فناسب أن يقول: {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ}.
ثم من ناحية أخرى أنه قال في آية الجاثية: {فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} على العموم فناسب أن يقول: (في رحمته)، فإن قوله: (في رحمته) أعم من قوله: (في رحمة منه) فناسب العموم العموم.
ثم قال: (وعملوا الصالحات) فذكر الصالحات بالجمع فناسب ذلك أيضًا أن يقول: (في رحمته).
وقال في التوبة: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)}.
فذكر الإيمان بالله واليوم الآخر والإنفاق قربة لله وصلوات الرسول أي دعاءه.
ولا شك أن هذه أعلى مما ذكره في آية النساء، فناسب أن يقول: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ}.
هذا إضافة إلى أنه ختم الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وقد تقول: ولم قال في آية النساء: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ}
وقال في آية التوبة: {سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ} بالسين في الآيتين.
وقال في آية الجاثية: {فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ} من دون سين؟
فنقول: إن آيتي النساء والتوبة إنما هما فيمن هو في الدنيا فناسب ذكر السين التي هي للاستقبال.
وأما آية الجاثية فإنما هي فيمن هو في الآخرة. قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30)}.
فلا يناسب ذكر السين، فإنما الأمر حاضر في ذلك الوقت.
{إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
جعل الصلاح سببًا للدخول في رحمته سبحانه.
هذا إضافة إلى أن ذلك مناسب لما تقدم من قوله: {وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ}
يعني إبراهيم ولوطاً وإسحاق ويعقوب.
فقد ذكر أنه جعله من المذكورين بالصلاح.
فذكره بالصلاح مرتين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 165 إلى ص 174.
(1) انظر البحر المحيط 6/329، تفسير أبي السعود 3/716.
(2) انظر (من أسرار البيان القرآني) 11
(3) الكشاف 2/333.
(4) على طريق التفسير البياني 2/208 – 209.
(5) انظر بلاغة الكلمة في التعبير القرآني 74 وما بعدها.
(6) لسان العرب (سوء)
(7) لسان العرب (سوء)