عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴿٧٣﴾    [الأنبياء   آية:٧٣]
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} كرر الفعل (جعل) مع مفعوله الأول فقال: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} ولم يعطف (أئمة) على (كلا) فيقول: (وأئمة يهدون بأمرنا) لئلا يحتمل معنى آخر وهو: (وجعلنا أئمة يهدون بأمرنا) أي أئمة آخرين غير هؤلاء فيعني بالأئمة غيرهم فيكون المعنى: إن هؤلاء كانوا صالحين، وجعلنا أئمة يهدون بأمر الله أي آخرين. فقال: (وجعلناهم) يعني المذكورين في الآية السابقة وهم إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب. وقد يحتمل العطف على (صالحين) أي جعلناهم صالحين وأئمة فيكون التعبير احتماليًا. فأراد النص على أن المقصودين هم المذكورون فكرر الفعل مع مفعوله الأول. جاء في (التحرير والتنوير): "وإعادة فعل (جعل) في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} دون أن يقال: (وأئمة يهدون) بعطف (أئمة) على (صالحين) اهتمامًا بهذا الجعل الشريف، وهو جعلهم هادين للناس بعد أن جعلهم صالحين في أنفسهم. ولأن في إعادة الفعل إعادة ذكر المفعول الأول فكانت إعادته وسيلة إلى إعادة ذكر المفعول الأول. وفي تلك الإعادة من الاعتناء ما في الإظهار في مقام الإضمار" (1). وقوله: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يحتمل معنيين: الأول: أن يكونوا مأمورين بالهداية، أي أمرهم ربهم بأن يهدوا الناس. جاء في (الكشاف): {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} فيه أن من صلح ليكون قدوة في دين الله فالهداية محتومة عليه مأمور هو بها من جهة الله ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها" (2). والمعنى الآخر: أي يهدون بشرع الله فيكون أمره – وهو ما شرعه سبحانه للناس – وسيلة للهداية نحو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52]. وقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة: 15 – 16]. أي يهدي بالقرآن. وقوله: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 23]. فيكون وسيلة للهداية. {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} "أي خصصناهم بشرف النبوة" (3). {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} "من عطف الخاص على العام دلالة على فضله" (4). فإن فعل الخيرات عام يشمل الفروض والمندوبات. فدخل في ذلك ما ذكر من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وخصهما بالذكر لأهميتهما وكبير منزلتهما عند الله، فإنهما من أركان الإسلام كما هو معلوم. {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} قدم الجار والمجرور (لنا) على (عابدين) للاختصاص، أي كانوا عابدين لنا خاصة دون غيرنا (5). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 162 إلى ص 165. (1) التحرير والتنوير 17/109. (2) الكشاف 2/333. (3) البحر المحيط 6/305. (4) تفسير أبي السعود 3/716. (5) انظر تفسير أبي السعود 3/716.