عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴿٦٩﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٦٩]
- ﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴿٧٠﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٧٠]
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}
لم يقل: يا نار كوني باردة وذات سلام، وإنما قال: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا} مبالغة في أن تكون هي البرد والسلام بعينهما.
وجمع بين البرد والسلام لتكون غاية في الراحة، ولئلا يناله شيء من الأذى. إذ لو قال: (كوني بردًا) ولم يقل: (كوني سلامًا) لربما آذاه البرد، خاصة وإنه أمر بالمبالغة في كونها باردة، فقد أمر بالمصدر.
جاء في (البحر المحيط): "لو لم يقل: (وسلامًا) لهلك إبراهيم من البرد... والمعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كأن ذاتها برد وسلام" (1).
وقال: {عَلَى إِبْرَاهِيمَ} لتكون بردًا وسلامًا عليه خاصة، وهي جحيم على غيره.
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}
لما قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فأقسم ليكيدن أصنامهم أرادوا هم أيضًا أن يكيدوه ويمكروا به. فهو أراد أن يكيد أصنامهم وهم أرادوا أن يكيدوه. فكل أراد أن يكيد ولكن شتان ما بين الكيدين.
قد تقول: لقد قال هنا: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} بإدخال الواو على الفعل (أرادوا).
وقال في الصافات: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} بإدخال الفاء على الفعل.
فما سبب الاختلاف.
والجواب ظاهر، ذلك أن القول في سورة الأنبياء إنما ذكر بعد إلقائه في النار وجعلها بردًا وسلامًا، فلا يناسب ذكر الفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب، فإن الكيد قد حصل وتم.
وأما في الصافات فإنه قال ذلك بعد قولهم: {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} فذكر إرادة الكيد بعد الأمر بإلقائه في الجحيم وقبل التنفيذ، فناسب ذكر الفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب.
لقد قال في الأنبياء: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} فذكر الخسران.
وقال الصافات: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)}.
ذلك أنهم قالوا في الأنبياء: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ} فطلبوا أن ينصروا آلهتهم فكان عاقبة ذلك أنهم خسروا الحرب التي أرادوا بها أن ينصروا آلهتهم.
ونتيجة الحرب النصر أو الخسارة فكانوا هم الأخسرين.
وقال: (الأخسرين) ولم يقل: (الخاسرين) للدلالة على أفظع الخسران وأشده، فهم خسروا الدنيا والآخرة.
جاء في (البحر المحيط): "{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} أي المبالغين في الخسران وهو إبطال ما راموه جادلوا إبراهيم فجدلهم وبكتهم وأظهر لهم وقر عقولهم، وتقووا عليه بالأخذ والإلقاء فخلصه الله" (2).
وجاء في (تفسير أبي السعود): {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفاء نور الحق برهانًا قاطعًا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل" (3)!
وأما قوله في الصافات: {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} فإن ذلك مناسب لذكر البنيان، والبنيان بناء عال مرتفع فإنهم أرادوا أن يلقوا إبراهيم منه ليهوي في النار فكانوا هم الأسفلين.
فناسب ذكر الأسفلين ذكر البنيان المرتفع.
جاء في (درة التنزيل) في قوله تعالى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ}
وقوله في الصافات: {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}:
"الجواب أن يقال ما في سورة الأنبياء فإن الله تعالى أخبر فيها عن إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ }، ثم أ أخبر عن الكفار لما ألقوه في النار وأرادوا به كيدًا {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} والكيد سعي في مضرة ليورد على غفلة. فذكر مكايدة بينهم وبين إبراهيم عليه السلام فكادهم ولم يكيدوه، فخسرت تجارتهم وعادت عليهم مكايدتهم لأنه كسر أصنامهم ولم يبلغوا من إحراقه مرادهم. فذكر الأخسرين لأنهم خسروا فيما عاملهم به وعاملوه من المكايدة التي أضيفت إليهما.
وأما التي في سورة الصافات فإن الله تعالى أخبر عن الكفار فيها بما اقتضى من الأسفلين وهو أنه قال: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} فبنوا له بناء عاليًا ورفعوه فوقه ليرموا به من هناك إلى النار التي أججوها، فلما علوا ذلك البناء وحطوه منه إلى أسفل عادوا هم ا الأسفلين، لأنهم أهلكوا الدنيا وسفل أمرهم في الأخرى.
والله تعالى نجى نبيه وأعلاه عليهم فانقلب عالي أمرهم في صعود البناء وسافل أمر إبراهيم عليه السلام لما حط إلى النار أن صار ذاك سافلاً وأمر النبي عليه السلام عاليًا، فلذلك اختصت هذه الآية بقوله: {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ}" (4).
وجاء في (كشف المعاني في المتشابه من المثاني) لبدر الدين بن جماعة: "إنهم أرادوا كيده بإحراقه فنجاه الله تعالى وأهلكهم وكسر أصنامهم فخسروا الدنيا والآخرة.
وفي الصافات قالوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ} أي من فوق البناء في الجحيم، فناسب ذكر الأسفلين لقصدهم العلو لإلقائه في النار والله أعلم" (5).
وجاء في (ملاك التأويل): "قيل روعي في آية الصافات مقابلة قولهم: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} لأنه يفهم منه إرادتهم علو أمرهم بفعلهم ذلك فقوبلوا بالضد فجعلوا الأسفلين" (6).
وقال: {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} و{فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} ولم يقل: (فكانوا هم الأخسرين) أو (فكانوا هم الأسفلين) لأن ذلك إنما كان بقدرة الله سبحانه وجعله ونصره.
وقد تقول: لكنه قال في آية أخرى: {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات: 116] فقال: (فكانوا).
فنقول: إن السياق يوضح ذلك، فقد قال سبحانه: {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)}.
فذكر أنه نصرهم فكانوا هم الغالبين، أي بنصره سبحانه كانوا هم الغالبين
هذا علاوة على أنه ذكر أيضًا أنه نجاهما وقومهما من الكرب العظيم.
فهو الذي نجاهم وهو الذي نصرهم فغلبوا بنصره سبحانه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 157 إلى ص 161.
(1) البحر المحيط 6/328.
(2) البحر المحيط 6/328.
(3) تفسير أبي السعود 3/715.
(4) درة التنزيل 300
(5) كشف المعاني 256.
(6) ملاك التأويل 2/701.