عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴿٦٨﴾    [الأنبياء   آية:٦٨]
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)} قالوا: (حرقوه) ولم يقولوا: (أحرقوه) من (أحرق) ولا (احرقوه) من (حرق). وإنما قالوه بالتضعيف للمبالغة في الحرق، يقال: "أحرقه بالنار وحرقه شدد للكثرة " (1). وراموا تحريقه لأنه أشد العقوبات (2). قد تقول: ولكنهم قالوا في العنكبوت. {قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} فذكروا التخيير بين أحد الأمرين: القتل أو التحريق. أما في آية الأنبياء هذه فإنهم قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ} فذكروا أشد العقوبتين وهو التحريق ولم يذكروا القتل فما السبب؟ والجواب ظاهر، فإن السياق في الأنبياء أشد، ذلك أنه حطم أصنامهم وجعلهم جذاذًا، وأما في العنكبوت فلم يذكر ذلك وإنما ذكر ما هو أخف، فقد قال في العنكبوت: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآَخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24)} لقد قال لهم في الأنبياء ما هو أشد من ذلك، فقد رماهم ورمى آباءهم بالضلال المبين فقال: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)}. وقال: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)} فرماهم بعدم العقل. وتوعدهم بأن يكيد أصنامهم: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)} فالفرق ظاهر بين المقامين. أو إن ما في العنكبوت إنما كان في بداية المداولة والتشاور فيما يفعلون به فذكروا القتل أو التحريق ثم استقر الرأي على تحريقه. ووضع كلاً في سياقه المناسب. لقد قالوا: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ} فطلبوا نصر آلهتهم، وهذه إشارة إلى أن الآلهة لا تستطيع أن تنصر نفسها بل هم ينصرونها، وهو مناسب لما مر قبل هذه الآيات وهو قوله: {أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)}. والكلام هنا على ما يعبده المشركون في زمن الرسول من الآلهة. فقد ذكر أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم. وهو حقيقة عامة في جميع ما اتخذ إلها من دون الله وما يتخذ، سواء كان في زمن إبراهيم أم قبله أم بعده. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} يعني "إن كنتم ناصرين أنفسكم نصرًا مؤزرًا" (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 154 إلى ص 156. (1) لسان العرب (حرق). (2) انظر تفسير أبي السعود 3/714. (3) الكشاف 2/333.