عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴿٥٧﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٥٧]
- ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴿٥٨﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٥٨]
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)}
جاء بالتاء في القسم بالله ليدل على عظيم ما سيأتي به، فإن التاء تدل على التعظيم والتفخيم، فإنه أقسم على أمر عظيم سيفعله وذلك لتعظيم قومه لهذه الأصنام والعكوف عليها غير مبال بالعاقبة. جاء في (الكشاف): "التاء بدل من الواو المبدلة منها، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه؛ لأن ذلك كان أمراً مقنوطًا منه لصعوبته وتعذره" (1).
{لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ}
الكيد: "هو الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد" (2).
فقال: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} مع علمه أن الأصنام لا تحتاج إلى الكيد، فإنها لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تدفع ولا تنفع، وذلك ليبين لقومه أنها لا تعي ولا تدرك ما يراد من إيقاع الضرر بها، ولو كانت تعلم أو تقدر لمنعت هذا الكيد، فلعل ذلك يصرفهم عن عبادتها.
أو إن المعنى أراد أن يحتال على قومه ليوقع بأصنامهم، وكان ذلك في اختيار يوم عيدهم وفيما ادعاه من سقمه إذ قال: (إني سقيم).
جاء في (التفسير الكبير) للرازي: "إن قيل: لماذا قال: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} والكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به وذلك لا يتأتى في الأصنام.
وجوابه: قال ذلك توسعًا لما كان عندهم أن الضرر يجوز عليها.
وقيل: المراد لأكيدنكم في أصنامكم؛ لأنه بذلك الفعل قد أنزل بهم الغم" (3).
وقال: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فسماها أصنامًا وقد قال في آية سابقة: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} فسماها (تماثيل)، ذلك أنه سماها، تماثيل لتجاهل العارف - كما ذكرنا - كأنه لا يعرف ما حقيقتها ولماذا هم عاكفون عليها. والتمثال ليس بالضرورة للعبادة.
أما بعد أن ذكروا أنهم عابدون لها فقد سماها أصنامًا؛ لأن الصنم "هو ما اتخذ إلها من دون الله" (4).
فلما ذكروا عبادتهم لها سماها أصنامًا. ولذا لم يرد في القرآن لفظ الأصنام إلا في مقام العبادة أو اتخاذها آلهة.
قال تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} [الأعراف: ۱۳۸].
فرد عليهم موسى بقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} [الأعراف: ١٤٠].
وقال على لسان سيدنا إبراهيم: {أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].
وقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً} [الانعام: 7٤].
وقال: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71].
{فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا}
أي قطعًا من الجذّ وهو القطع (5)، وقيل: حطامًا (6).
وقال: {فَجَعَلَهُمْ} بضمير العقلاء، ولم يقل: (فجعلها) لأنها كانت تعبد (7)، فنزلها منزلة العقلاء.
{إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} لم يكسره لعلهم يرجعون إليه فيسألونه، وهو من الكيد الذي دبره سيدنا إبراهيم.
{لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}
قيل: إن الضمير في (إليه) يعود على إبراهيم، أي يرجعون إلى إبراهيم فيسألونه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم.
وقيل: إن الضمير يعود على الصنم الكبير فيسألونه عن ذلك (8).
وهو الأصوب في رأيي، لأنه حتى لو حطم الكبير فسيرجعون إلى إبراهيم لما تسامعوه عنه من ذكره لآلهتهم.
وعلى هذا لا موجب لبقاء الكبير، فإنهم على أية حال سيرجعون إلى إبراهيم، وإنما استبقى الكبير ليتم إقامة الحجة عليهم بسؤاله وعلمهم بعجزه عن الإجابة.
وقدم الجار والمجرور (إليه) على الفعل (يرجعون) للحصر (9).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 145 إلى ص 148.
(1) الكشاف 2/321.
(2) البحر المحيط 6/322.
(3) التفسير الكبير 8/153.
(4) لسان العرب (صنم).
(5) التفسير الكبير للرازي 8/154.
(6) البحر المحيط 6/322.
(7) البحر المحيط 6/322.
(8) انظر الكشاف 2/321.
(9) روح المعاني 17/62.