عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴿٥٦﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٥٦]
{قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)}
ذكر أمرين لمن يستحق العبادة ولا يستحقها غيره.
الأمر الأول: أنه رب السماوات والأرض.
الأمر الآخر: أنه هو الذي فطرهن وأوجدهن من العدم.
وذلك هو الله ولا رب غيره ولا يستحق أن يعبد سواه.
جاء في (تفسير أبي السعود): "وصفه تعالى بإيجادهن إثر وصفه تعالى بربوبيته تعالى لهن تحقيقًا للحق وتنبيهًا على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية. أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه" (1).
وجاء في (البحر المحيط): "ثم أضرب عن قولهم وأخبر عن الجد وأن المالك لهم والمستحق العبادة هو ربهم ورب هذا العالم العلوي والعالم السفلي المندرج فيه أنتم ومعبوداتكم" (2).
وهذان الأمران من الاستدلال احتج بهما القرآن على من يعبد غير الله من الكفار، فإنهم يقرون بذلك ولا ينكرونه ومع ذلك يعبدون غيره. فقد أمر سبحانه رسوله أن يسأل الكفار المعاندين قائلا له: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: ٨٦ - 87].
وقال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)} [المؤمنون: ٨٤ - 85].
فهو الرب وهو المالك للأرض ومن فيها.
بل هو مالك كل شيء كما يفرون ويعترفون. قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنون: ٨٨ - 89].
ثم ذكر أنك لو سألتهم من خلق السماوات والأرض لقالوا: هو الله. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت: 61].
فهم يقرون بأنه رب السماوات والأرض وأنه هو الذي خلقهن، ومع ذلك فهم يعبدون غيره.
{وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}.
وشهادته على ذلك إنما هي بإقامة الحجة عليهم.
جاء في (الكشاف): "وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليه، وتصحيحه بها، كما تصحح الدعوى بالشهادة، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات، لأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم" (3).
وجاء في (التفسير الكبير) للرازي في قوله: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أن في ذلك وجهين:
"الأول: أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق، كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه: أشهد أنه كريم.
والثاني:: أنه عليه السلام عنى بقوله: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة، وأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم" (4).
إن إبراهيم عليه السلام بين أمرين في الاحتجاج:
أمرًا قوليًا، وهو الاحتجاج بربوبية السماء والأرض ومن فطرهن.
وأمرًا فعليًا وهو تحطيمه للأصنام التي يعبدونها ليدل على أنها غير قادرة على الدفع، فهي لا تستطيع أن تدفع الضرر عن نفسها، وبالأولى أنها لا تستطيع أن تدفع عن الغير. وعلى أية حال فهي لا تضر ولا تنفع.
فهي لا تستحق أن تعبد.
جاء في (التفسير الكبير) للرازي: "اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم أظهر عليه السلام بما يعلمون أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد بالقول أولاً وبالفعل ثانيًا.
أما الطريقة القولية فهي قوله: {بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد.
وأما الطريقة الفعلية فهي قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} فإن القوم لما لم ينتفعوا بالدلالة العقلية عدل إلى أن أراهم عدم الفائدة في عبادتها" (5).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 142 إلى ص 145.
(1) تفسير أبي السعود 3/710.
(2) البحر المحيط 6/35.
(3) الكشاف 2/321.
(4) التفسير الكبير 8/153.
(5) التفسير الكبير 8/153.