عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴿٥٢﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٥٢]
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)}
قيل: إن (إذ) إما أن يتعلق بـ (آتينا) أي آتينا إبراهيم حين قال لأبيه وقومه رشده.
وقيل: هو متعلق بـ (رشده) أي آتيناه رشده حين قال لأبيه وقومه.
ويحتمل أن يكون متعلقًا بـ (عالمين) أي كنا به عالمين حين قال لأبيه وقومه.
وقيل: أو هو متعلق بمحذوف، أي اذكر من أوقات رشده حين قال لأبيه وقومه (1).
والذي يبدو لي أن الوجه الأخير هو أولى، ذلك أن أي تقدير آخر يعني أنما يكون الرشد في ذلك الوقت.
فقولنا: (آتيناه الرشد حين قال لأبيه) يعني أنه آتاه الرشد في ذلك الوقت خصوصًا.
وتعليقه بـ (رشده) يعني أن رشده إنما هو حين قال لأبيه وقومه.
وتعليقه بـ (عالمين) أي أن علمنا إنما كان حين قال لأبيه وقومه.
فكل تعليق بمذكور إنما يتخصص الرشد بذلك الأمر. في حين إيتاء الرشد كان عامًا، وهذا القول من مظاهر رشده.
وتقديره بـ (اذكر) لا يعني تخصيصًا بوقت دون وقت، وإنما أراد أن يذكر من حالات رشده ما ذكره لأبيه وقومه.
وبدأ بذكر الأب لأنه الأولى والأهم عنده في إنقاذه مما هو فيه.
جاء في (البحر المحيط): "وبدأ أولاً بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلال، ثم عطف عليه (قومه) كقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}" (2).
{مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)}
وسؤاله لهم إنما هو من تجاهل العارف إذ هو عالم بذلك، فهو يعلم عاكفون لها.
جاء في (الكشاف): "قوله: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} تجاهل لهم وتغاب ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها" (3).
وجاء في (التحرير والتنوير): "وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيدًا لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم" (4).
والتماثيل هي الصور التي تماثل غيرها من المخلوقات و"التمثال اسم للشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله" (5).
ومعنى (عاكفون لها): ملازمون لها "والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وقيل: اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض" (6).
"والظاهر أن اللام في (لها) لام التعليل أي لتعظيمها، وصلة (عاكفون) محذوفة، أي على عبادتها.
وقيل: ضمن (عاكفون) معنى عابدين فعداه باللام" (7).
وجاء باسم الفاعل (عاكفون) للدلالة على الدوام، بخلاف قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: ۱۳۸] بالفعل، ذلك أنهم مروا بهم في طريقهم بعد مجاوزتهم البحر فوجدوهم كذلك ولم يكونوا معهم على الدوام ليروا ملازمتهم لها.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 138 إلى ص 141.
(1) انظر الكشاف 2/330، البحر المحيط 6/320.
(2) البحر المحيط 6/320.
(3) الكشاف 2/330.
(4) التحرير والتنوير 17/94.
(5) لسان العرب (مثل).
(6) روح المعاني 17/59.
(7) البحر المحيط 6/320.