عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}
إن هذه الآية مناسبة لما ذكر قبلها من إيتاء موسى وهارون الفرقان ضياء وذكرا للمتقين.
وأشار بقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} إلى القرآن، أي هذا كتاب كثير البركة غزير النفع والخير.
والإشارة إلى الذكر هنا مناسبة لما ذكره من الذكر في الآية السابقة.
جاء في (تفسير أبي السعود): "(ذكر)... وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقة لما مر في صدر السورة الكريمة" (1).
ووصف الذكر بأنه مبارك وقدم الوصف بذلك على الإنزال.
قد تقول: لقد قال في سورة الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}.
فقال في الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ}.
وقال ههنا: {وَهَذَا ذِكْرٌ}.
وقدم الإنزال على وصفه بأنه مبارك في الأنعام فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}.
وقدم الوصف بالبركة على الإنزال في آية الأنبياء.
فلم ذاك؟
فنقول: إن كل تعبير مناسب للموطن الذي ورد فيه.
فقد قال قبل آية الأنعام: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ (91)}.
فقد ذكر قول القائلين: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فأنكروا الإنزال أصلاً.
ثم قال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}.
فقدم الإنزال على كونه مباركًا لأنه هو مدار الإنكار والاهتمام فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}. ولما كان الله قد أنزله فهو مبارك ولا شك.
ولما ذكر الكتاب في الآية فقال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ}. ناسب أن يقول في الآية بعدها: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}.
فناسب ذكر الكتاب في آية الأنعام سياقه، وناسب ذكر (الذكر) في الأنبياء سياقه. وناسب تقديم الإنزال على كونه مباركًا في آية الأنعام.
ولما لم يذكر الإنكار للإنزال في آية الأنبياء قدم عليه ذكر الوصف بالبركة.
ثم قال: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين (2).
وقدم الجار والمجرور (له) على الخبر (منكرون) لأن الكلام عليه.
جاء في (البحر المحيط): "لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على البشر شيئا وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة.
ولما كان الإنكار إنما وقع على الإنزال فقالوا: (ما أنزل الله) وقيل: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ}كان تقديم وصفه بالإنزال أكد من وصفه بكونه مباركًا، ولأن ما أنزل الله تعالى فهو مبارك قطعًا، فصارت الصفة بكونه مباركًا كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها.
فأما قوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئا بل جاء عقب قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} ذكر أن الذي آتاه الرسول هو ذكر مبارك.
ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل، ولما كان وصفه بالبركة وصفًا لا يفارق عبر بالاسم الدال على الثبوت" (3).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 123 إلى ص 125.
(1) تفسير أبي السعود 3/708.
(2) انظر البحر المحيط 6/317.
(3) البحر المحيط 4/179.
قصة سيدنا إبراهيم
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)}
ورد هذا الجانب من قصة إبراهيم – أي محاجة إبراهيم لأبيه وقومه ودعوته لهم – في سورة الأنعام ومريم والأنبياء والشعراء والعنكبوت والصافات والزخرف، غير أناه لم تتكرر، بل ورد في كل موضع ما يناسب السياق وما يراد أن يسلط عليه من الضوء.
ففي سورة الأنعام وهو أول موضع ورد فيه هذا الجانب كان الكلام مع أبيه متعجبًا مع الإنكار من أن يتخذ أصنامًا آلهة. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)}.
وهو أول موضع ذكر اسم أبيه (آزر) ولم يكرره في موضع آخر، فاكتفى بذكره في الموضع الأول.
كان الخطاب لأبيه وحده: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً} ولم يقل: (أتتخذون) فكان الحديث مع الأب.
ثم قال: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي هذا ما يراه هو، ولم يذكر أنه جاءه بذلك وحي أو علم. فهو لم يقل له: (إنك وقومك في ضلال مبين) بل قال إن هذا ما يراه.
ثم ذكرت القصة كيف اهتدى إلى ربه بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، إذ رأى كوكبًا فقال: هذا ربي، حتى إذا أفل قال: لا أحب الآفلين.
ثم رأى القمر، فقال: هذا ربي، حتى إذا أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين.
ثم رأى الشمس فقال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت تبرأ من شرك قومه وخاطب قومه معلنًا براءته من شركهم وإيمانه بمن فطر السماوات والأرض.
وحاجه قومه في ذلك لهم إيمانه بالله وأنه لا يخاف معبوداتهم التي يشركونها بالله (الآيات 74 - 81).
وأما في سورة مريم فالقصة تبين أمرًا آخر، إذ سأل أباه أنه لم يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئًا؟
ثم ذكر أنه قد جاءه من العلم ما لم يأته.
وهذه مرحلة غير الحالة الأولى.
فما ذكره في الأنعام أنه يراه وقومه في ضلال مبين، أي هذا ما يراه.
أما في مريم فإنه ذكر لأبيه أنه قد جاءه من العلم ما لم يأته، وأنه طلب منه أن يتبعه ليهديه الصراط السوي.
وهذا ما لم يذكره في الأنعام.
فكأن هذه مرحلة تتلو المرحلة الأولى قبلها.
ثم إن موقف أبيه منه قد تغير الآن، فإن أباه هدده بالرجم إن لم ينته، وأنه طلب منه أن يهجره. وقد أكد ذلك بالقسم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}
وكان موقف إبراهيم في غاية حسن الأدب وتمني الهداية لأبيه قائلاً له: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي}
كما إن موقفه مع قومه قد اختلف.
ففي الأنعام ذكر المحاجة مع قومه وانتهى الأمر عند ذاك.
أما في هذه السورة سورة مريم فقد ذكر أنه سيعتزلهم وما يدعون من دون الله. وقد اعتزلهم فعلاً، فقد قال لقومه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)}.
ثم نفذ هذا الأمر فاعتزلهم. وقد أخبر ربنا بذلك فقال: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)}.
فما ورد في سورة مريم كأنه استكمال لما ورد في الأنعام. وهو الحالة الطبيعية في مواقف الحياة.
وهذا ما ورد من القصة في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)}
وأما ما ورد في سورة الأنبياء فالأمر مختلف.
فإن الموقف قد اختلف، فالمحاجة قد اختلفت في الشدة، وإن العاقبة قد اختلفت.
فالخطاب كان للأب في سورتي الأنعام ومريم. وأما في هذه السورة فكان الخطاب عامًا لأبيه وقومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}.
ولم يذكروا أمرًا في الإجابة عن هذا السؤال سوى أنهم وجدوا آباءهم لها عابدين.
فقال لهم: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فأخبرهم أنهم كانوا هم وآباؤهم في ضلال مبين. ولم يقل كما قال في الأنعام: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي هذا ما يراه.
وإنما هو الآن قرر ذلك بعد ما جاءه العلم من ربه.
ثم إن لم يذكر آباءهم في الأنعام بل ذكر أباه وقومه. أما الآن في سورة الأنبياء فإنهم بعد ما ذكروا أنهم وجدوا آباءهم لها عابدين قال لهم: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فقد ذكرهم وذكر آباءهم وقرر ذلك مؤكدًا بلام القسم (لقد).
ثم كان عاقبة ذلك أن حطم الأصنام فجعلها جذاذًا إلا كبيرًا لهم. وقرروا إحراقه فلم يفلحوا.
وأما في سورة الشعراء فذكر شيئًا آخر من قصة سيدنا إبراهيم مع أبيه وقومه، وهو المناقشة والحوار في أمر الأصنام وماذا تستطيع أن تفعله لهم.
وذكر هو ربه وما يفعله له.
فقد قال لأبيه وقومه سائلاً لهم: {مَا تَعْبُدُونَ}
فأجابوه قائلين: نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين.
فسألهم قائلاً: هل يسمعونكم إذا تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون؟
فلم يقولوا له: نعم هم كذلك، وإنما قالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}
فأعلن عداوته لهذه الآلهة ولم يعلن عداوته لهم فقال: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)}
ثم ذكر ما يفعله له ربه رب العالمين: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)}
وانتهى الأمر عند هذا الحد ولم يتعد المحاجة والمحاورة.
ثم انتهت القصة بالدعاء لنفسه ولأبيه قائلاً: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}
فأنت ترى أنه نفذ ما وعد أباه في سورة مريم أنه سيستغفر له ربه حين قال: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} فقد دعا ربه هنا في الشعراء بالمغفرة لأبيه قائلاً: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} تنفيذًا لما وعد، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114].
وأما ما ورد في العنكبوت فكأنه استكمال للحديث والمحاورة لما في الشعراء.
إذ بعد أن ذكر لهم ما يفعله ربه له من الخير في الشعراء دعاهم في العنكبوت إلى أن يعبدوا الله ويتقوه ليصيبهم من النعم ما هو خير لهم.
فإنه في الشعراء لم يدعهم إلى عبادة الله وإنما لم يتعد الأمر الحوار والحجاج، فلما تبين لهم ضعف حجتهم وأن آلهتهم لا تنفعهم شيئا دعاهم إلى عبادة الله.
فذكر ما يفعله ربه له من النعم في الشعراء.
وذكر في العنكبوت أنهم إن هم عبدوه واتقوه أفاض عليهم بالخير والنعم.
قال تعالى:
{ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) …… فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) }
فما كانت نتيجة الحوار إلا أن قالوا: (اقتلوه أو حرقوه) فأنجاه الله من النار.
فكأن هذا نتيجة الحوار والحديث لما ورد في الشعراء والعنكبوت.
وأما ما ورد في سورة الصافات فإنه مختلف عن كل ما ورد، فإنه لما ضاق ذرعًا بمحاجتهم وأنهم لا يعبئون بحجة ولا يستمعون لقول، وليس عندهم حجة سوى أنهم رأوا آباءهم كذلك. إقرارهم بأنها لا تسمع أو تنفع أو تضر، وأنه لم ينفع معهم ترغيب أو ترهيب أخذ يقرعهم ويشتد عليهم في الكلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) }،
فلم يقل: (ما تعبدون) كما قال في الشعراء، وإنما قال لهم: (ماذا تعبدون) فزاد في لفظة الاستفهام لقصد تقريعهم. ذلك أن المقام في الشعراء مقام استفهام ومحاجة، وفي الصافات مقام تقريع، يدل على ذلك قوله بعد هذه الآية: {أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)}.
ثم انتهى الأمر بتحطيم الأصنام وإلقائه في النار (1).
ومع أنه ذكر في سورتي الأنبياء والصافات تحطيم الأصنام فإن القصة لم تتكرر فيهما، فإنه ذكر في كل موضع ما لم يذكره في الآخر.
فإنه هدد في الأنبياء أنه ليكيدن أصنامهم (٥٧).
وفي الصافات ذكر الحجة التي اعتل بها لئلا يخرج معهم في عيدهم فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ }(2) ولم يذكر ذلك في الأنبياء.
فقال: {أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}.
وذكر في الصافات أنهم قالوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)}.
ولم يذكر ذلك في الأنبياء.
ثم تسير القصة في الصافات مسارًا آخر غير مسارها في الأنبياء.
فإنه ذكر في الأنبياء أنه نجاه ولوطًا إلى الأرض التي بارك فيها، وذكر شيئًا من قصة لوط.
وأما في الصافات فقد ذكرت القصة الأمر بذبح ولده وما بعد ذلك.
قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)....}
وأما في الزخرف وهو آخر موضع وردت فيه هذه القصة فإنه لخص دعوته وخاتمة الأمر بإيجاز.
فقد أعلن لأبيه وقومه براءته ما يعبدون أشد البراءة قائلاً لهم: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}، واستثنى من ذلك من فطره فقال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}.
وأنه جعل هذه الكلمة باقية في عقبه، أي في ذريته فلا "يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده عز وجل" (3).
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعله يرجع من يشرك بالله إلى التوحيد.
قال تعالى في الزخرف: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)}
ويمكن تلخيص قسم من أحداث القصة في السور التي ذكرناها بما يأتي:
الدعوة:
كان الحديث موجهًا إلى أبيه في الأنعام ومريم.
وفي الأنبياء والشعراء والصافات والزخرف موجها إلى أبيه وقومه.
وفي العنكبوت كان الكلام موجها لقومه؛ لأن الكلام كان لما هو خير لهم على العموم، ولأنه ذكر عاقبة الأمم المكذبة. فكان الكلام موجهًا لقومه على العموم.
موقف إبراهيم:
كان موقف إبراهيم في الأنعام لا يعدو المحاجة.
وفي مريم كان اعتزاله لهم ولما يعبدون من دون الله.
وفي الأنبياء والصافات تحطيم الأصنام مع الاختلاف في التفاصيل.
وفي الشعراء التوسع في الاحتجاج.
وفي العنكبوت ذكر المنافع والترغيب في عبادة الله والترهيب من معصيته.
وفي الزخرف إعلان البراءة مما يعبدون إلا الذي فطره، وجعل كلمة التوحيد باقية في عقبه.
موقف قومه منه:
في سورة الأنعام ذكر محاجة قومه له ولم يذكر كيف كان الاحتجاج وما كانت حجتهم، والإلماح إلى أنهم خوفوه آلهتهم فقال لهم إنه لا يخاف ما يشركون به.
وفي مريم ذكر تهديد أبيه له بالرجم.
وفي الأنبياء ذكر سؤال قومه له عمن حطم آلهتهم، ومحاكمته أمام الناس والقضاء بتحريقه.
وفي الشعراء لم يتعد الموقف المحاجة وانقطاعهم أمامه في الحجة.
وفي العنكبوت ذكر عاقبة المحاجة وهي أنهم طلبوا قتله أو تحريقه.
وفي الصافات قرروا أن يبنوا له بنيانًا ويلقوه في الجحيم. ولم يذكر البنيان في الأنبياء وإنما ذكر الحكم بتحريقه.
فهناك ذكر الحكم، وهنا ذكر كيفية تنفيذ الحكم.
عاقبة إبراهيم:
لم يذكر عاقبة إبراهيم في الأنعام سوى أنه ذكر أنه وهب له ذرية صالحة.
وفي مريم ذكر أنه لما اعتزل قومه وما يعبدون من دون الله وهب له إسحاق ويعقوب وجعل كلاً منهما نبيًّا.
وفي الأنبياء ذكر أن النار جعلها بردًا وسلامًا، ونجاه ولوطاً إلى الأرض التي بارك فيها ووهب له إسحاق ويعقوب.
ولم يذكر في الشعراء سوى الدعاء لنفسه في الدنيا والآخرة.
وفي العنكبوت ذكر أن الله أنجاه من النار، وذكر أنه مهاجر إلى ربه، وأن الله وهب له إسحاق ويعقوب وآتاه أجره في الدنيا، وفي الآخرة هو من الصالحين.
وفي الصافات ذكر أنهم أرادوا به كيدًا فجعلهم الأسفلين. وأنه بشره بغلام حليم، ثم بشره بإسحاق.
كيفية النجاة:
قال في الأنبياء: إنه قال للنار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، ونجاه ولوطاً إلى الأرض التي بارك فيها.
وذكر في العنكبوت أنه أنجاه الله من النار ولم يقل كيف كان ذلك.
وفي الصافات قال: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} ولم يقل كيف كان ذلك.
ونعود الآن لدراسة القصة دراسة بيانية.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 127 إلى ص 137.
(1) انظر كتابنا (التعبير القرآني) 124 وما بعدها، درة التنزيل 336.
(2) انظر تفسير ابن كثير 4/13، فتح القدير 4/389.
(3) روح المعاني 25/77.