عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴿٤٩﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٤٩]
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)}
ذكر من صفات المتقين خشية ربهم بالغيب والإشفاق من الساعة.
والخشية "خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ۲۸] (1).
والإشفاق شدة الخوف (2).
لقد ذكر أنهم يخشون ربهم بالغيب، وقيل: إن قوله: (بالغيب) أنهم يخافونه ولم يروه، وقيل: إنهم يخافونه من حيث لا يراهم أحد (3) وذلك عند مغيب الإنسان عن عيون البشر، أي في الخلوة (4).
وقد ذكر هنا أنهم يخشون ربهم بالغيب، فقيد الخشية بالغيب.
وأطلق الخشية في أكثر من موطن وذلك نحو قوله: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الرعد: 21].
وقد فصلنا القول في التقييد والإطلاق في هذا التعبير في قوله تعالى في سورة يس: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (5)
فلا نعيد القول فيه.
وقال: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ }بذكر الرب المضاف إلى ضميرهم؛ لأن الرب هو المربي والهادي والمعلم، وأن الفرقان والضياء إنما هما للهداية فناسب ذكر الرب.
وقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} بالفعل المضارع الدال على التجدد، فإن الفعل المضارع قد يدل على الاستمرار والتجدد نحو قوله سبحانه: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26 – 27] (6).
ذلك أن خشية الله تتجدد في كل لحظة فجاء بها بالفعل المضارع الدال على الاستمرار.
وذكر اتصافهم بالإشفاق من الساعة بالصيغة الاسمية الدالة على الثبات، ذلك أنها ساعة الحساب على الأعمال، وهم يخافون على الدوام مما عملوه: ما مضى منه، وما هم فيه من العمل، وما سيعملونه في المستقبل، فجاء بها بالصيغة الاسمية الدالة على الدوام والثبات؛ ذلك لأنها متعلقة بحياة الإنسان كلها الماضية والحالية والمستقبلية.
جاء في (البحر المحيط): "وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدد دائمًا كأنها حالتهم فيما يتعلق بالدنيا.
والصلة الثانية من مبتدأ ومخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة (7).
وجاء في (تفسير أبي السعود): "وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه" (8).
وقدم الساعة على العامل في قوله: {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} لأنه ذكر المتقين وهم الذين يحذرون ويتحفظون في أعمالهم لئلا يصيبهم منها سوء في الآخرة. وإنما ذلك يحصل في الساعة فقدمها.
ثم إن الكلام على الساعة تردد في السورة في أكثر من موضع:
فقد ابتدأت السورة باقتراب الحساب للناس وذلك قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}.
وختمت بذلك وذلك قوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا....} [الأنبياء: 97 - 104].
وتقدم الآية الكلام على الساعة وذلك قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}.
فناسب ذلك تقديمها.
جاء في (تفسير أبي السعود) أن "تقديم الجار لمراعاة الفواصل وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظم المخوفات، وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون" (9).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 120 إلى ص 123.
(1) مفردات الراغب (خشي).
(2) البحر المحيط. 6/317.
(3) البحر المحيط. 6/317.
(4) البحر المحيط 7/325.
(5) انظر كتابنا (على طريق التفسير البياني – ج2) تفسير سورة يس.
(6) انظر (معاني النحو – ج3) – زمن الفعل المضارع.
(7) البحر المحيط 6/317.
(8) تفسير أبي السعود 3/708.
(9) تفسير أبي السعود 3/708.