عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴿٤٧﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٤٧]
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}
لما ذكر إقرار المنذرين بالظلم على وجه الثبوت في الآية السابقة بقولهم: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ذكر ربنا أنه عنده لا تظلم نفس شيئًا مهمًا قل، وأن أعمال العباد إنما توزن بميزان هو العدل بعينه فقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فوصف الموازين بالمصدر وهو القسط، أي هي العدل بعينه. ومن المعلوم أن الوصف بالمصدر يفيد المبالغة في الاتصاف بالشيء.
وجيء بالموازين على صيغة الجمع إما لكثرة من توزن أعمالهم أو لتعدد الموزونات وتنوعها (1).
وقوله: (ليوم القيامة) قيل: أي في يوم القيامة، أو عند يوم القيامة، ويحتمل أن يكون للتعليل، أي لأجل يوم القيامة (2).
وكل ذلك محتمل.
{فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}
نكر النفس لتشمل جميع النفوس.
و(شيئًا) يحتمل أن يكون معناه شيئًا من الأشياء فيكون مفعولاً به، كما يحتمل أن يكون: شيئا من الظلم فيكون مفعولاً مطلقا لدلالته على المصدر.
وكلا المعنيين مراد.
فهي لا تظلم شيئا من الأشياء ولا شيئا من الظلم. وهو من التوسع في المعنى. ولو قال: (شيئا من الظلم) لتخصص المعنى بشيء واحد، ولكنه أطلق.
جاء في (الكشاف): "وصفت الموازين بالقسط، وهو العدل، مبالغة، كأنها في أنفسها قسط، أو على حذف المضاف، أي ذوات القسط.
واللام في: (ليوم القيامة) مثلها في قولك: (جئته لخمس خلون من الشهر)...
وقيل: لأهل يوم القيامة، أي لأجلهم" (3).
وجاء في (تفسير أبي السعود): "(فلا تظلم نفس) من النفوس (شيئًا) حقًا من حقوقها أو شيئًا من الظلم... والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين" (4).
{وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}
أي وإن كان الشيء أو العمل مقدار حبة من خردل أتينا به.
"ومثقال الشيء ميزانه في مثله. ومثقال ذرة أي وزن ذرة" (5)، ومثقال حبة أي وزن حبة.
وأنث ضمير المثقال في قوله: (أتينا بها) لأنه أضيف إلى مؤنث وهو الحبة كقولهم: (ذهبت بعض أصابعه) (6)، وقوله: (كما شرقت صدر القناة من الدم)، وقوله: (تواضعت سور المدينة) في قول الشاعر:
لمـا أتـى خبـر الـزبـيـر تـواضـعـت
سـور المـدينـة والجبـال الخشـع
والعدول من التذكير إلى التأنيث في قوله: {أَتَيْنَا بِهَا } على كثرته في اللغة في نحو هذا فيه معنى لطيف.
ذلك أنه قال: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} والشيء - كما ذكرنا - يحتمل أن يكون معناه العمل أو الظلم أو شيئًا من الأشياء. وهذا الشيء قد يكون حبة من خردل أو مقدار الحبة فأعاد الضمير بالتأنيث ليشمل المعنيين: المصدر وحبة الخردل ومقدار ذلك.
وهذا من لطيف الدلالة.
{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}
"فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب، وهو العد والإحصاء...
والظاهر أن (حاسبين) تمييز... ويجوز أن يكون حالاً" (7).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 114 إلى ص 117.
(1) انظر التفسير الكبير للرازي، المجلد 8/149، نظم الدرر 12/428.
(2) انظر مغني اللبيب (اللام) 1/216، الكشاف 2/330، البحر المحيط 6/316.
(3) الكشاف 2/330 وانظر البحر المحيط 6/316.
(4) تفسير أبي السعود 3/707.
(5) لسان العرب (ثقل)، المصباح المنير (ثقل)، تاج العروس (ثقل).
(6) انظر الكشاف 2/330.
(7) البحر المحيط 6/317.