عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ﴿٤٥﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٤٥]
{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) }
شبه المخاطبين بالإنذار المدعوين إلى الإسلام بالصم. فهو بدل أن يقول: (وهؤلاء لا يسمعون الإنذار ولا يلتفتون إليه) قال: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} فهم أشبه بالصم فلا ينفع معهم إنذار.
وذكر نفي السمع لأن الإنذار مما يسمع. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: الصم لا يسمعون دعاء المبشر كما لا يسمعون دعاء المنذر فكيف قيل: {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}؟
قلت: اللام في (الصم) إشارة إلى هؤلاء المنذرين كائنة للعهد لا للجنس.
والأصل: ولا يسمعون إذا ما ينذرون. فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا. أي هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصام من آيات الإنذار" (1).
وجاء في (البحر المحيط): "ولما كان الوحي من المسموعات كان ذكر الصمم مناسبًا.
والصم هم المنذرون، فـ (أل) فيه للعهد" (2).
وقال: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ}، ولم يقل: (ولا يسمع الكلام) لأن الدعاء يكون عادة برفع الصوت. فإن هؤلاء حتى لو رفع الصوت لا يسمعونه للدلالة على شدة تصامّهم.
جاء في (تفسير أبي السعود): "كما أن إيثار الدعاء الذي هو عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئات دالة عليه" (3).
وقال: (إذا ما ينذرون) بالفعل المضارع، ولم يقل: (إذا ما أنذروا) أي ولو تكرر دعاؤهم وإنذارهم.
جاء بـ (ما) الزائدة المؤكدة للدلالة على أنهم لا يسمعون ولو بولغ في إنذارهم ورفع الصوت بذلك وتكرر.
ففي التعبير أكثر من دلالة على شدة تصامهم، منها:
أنه وصفهم بالصمم.
وأنه ذكر الدعاء وهو رفع الصوت.
وجاء بـ (إذا) الدالة على تحقق الإنذار ولم يأت بـ (إن).
وجاء بـ (ما) الزائدة المؤكدة.
وجاء بالفعل المضارع الدال على تكرر الإنذار.
قد تقول: لقد قال في النمل: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)}.
ونحوه قال في الروم ٥٢.
فختم الآيتين بقوله: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}، في حين ختم آية الأنبياء بقوله: {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}.
فلم الاختلاف بين الخاتمتين؟
فنقول: أما خاتمة آية الأنبياء فظاهرة المناسبة لأول الآية وهو قوله: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} فكلاهما في الإنذار. وأما آيتا النمل والروم فقد قال في أولهما: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، والموت إدبار عن الحياة، فناسب ذكر الإدبار في قوله: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}.
فكلاهما مدبر، أحدهما مدبر عن الحياة، والآخر مدبر عن السماع فهم بمنزلة الأموات.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 111 إلى ص 113.
(1) الكشاف 2/329.
(2) البحر المحيط 6/315.
(3) تفسير أبي السعود 3/706.