عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴿٤٤﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٤٤]
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}
أي نحن حفظناهم ومتعناهم هم وآباءهم وليست آلهتهم ولا أحد غيرنا فلا يغتروا بذلك ويظنوا أنهم سيبقون على حالتهم من التمتيع والطمأنينة. أفلا يرون أنا نأتي على دار الكفر وننقصها شيئًا فشيئًا ونمكن منهم المسلمين فيفتحون ديارهم؟
جاء في (الكشاف): "ثم قال: بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا. وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم طال عليهم الأمد وامتدت بهم أيام الروح والطمأنينة فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم وذلك طمع فارغ...
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا} ننقص أرض الكفر ودار الحرب ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام... وإن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها" (1).
وقال: {بَلْ مَتَّعْنَا} و{أَنَّا نَأْتِي} و{نَنْقُصُهَا} بإسناد ذلك إلى ضميره سبحانه ليدل على أن ذلك كله بإرادته وحوله وقوته وليس بما جرت عليه الأحوال، وإنما هو بتسليطنا جيوش المسلمين عليهم. وكان الأصل أن يقال: (يأتي جيوش المسلمين فيغلبونهم) ولكنه أسند الإتيان إليه سبحانه لأن ذلك بنصره وتأييده.
جاء في (روح المعاني): "وكان الأصل: يأتي جيوش المسلمين، لكنه أسند الإتيان إليه عز وجل تعظيمًا لهم [أي تعظيمًا لجيوش المسلمين] وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاه. وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين" (2).
قد تقول: لقد قال في الرعد: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا} [الرعد: 41].
فقال: (أولم) بإدخال (لم) على الفعل.
ومن المعلوم أن (لم) تقلب زمن المضارع إلى المضي.
في حين قال في آية الأنبياء: {أَفَلَا يَرَوْنَ} بإدخال (لا) على الفعل المضارع.
و(لا) الداخلة على المضارع تصرفه إلى الاستقبال غالبًا وقد تكون للحال.
فكان السؤال عن الرؤية في الرعد في الماضي.
وأما في الأنبياء فالسؤال عن الرؤية في الحال والاستقبال، فلم ذاك؟
والجواب أنه قال بعد آية الرعد: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا}.
وهذا إخبار عن ماض، فذكر ما فعله ربنا بهم، فناسب إدخال (لم) التي تفيض المضي.
في حين قال في الأنبياء: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} وهذا إنذار وتخويف مما يقع لهم في المستقبل.
وقال: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)}.
وهذا تحذير لهم مما يقع في المستقبل، فناسب إدخال (لا) وذلك تذكير لهم في الحال والاستقبال. والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 108 إلى ص 110.
(1) الكشاف 2/329.
(2) روح المعاني 17/53.