عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿٤١﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٤١]
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)}
قيل في الفرق بيم الاستهزاء والسخرية: "إن الإنسان يستهزأ به من غير أن يسبق منه فعل يسبق من المسخور منه" (1).
والملاحظ في التعبير القرآني أن الاستهزاء يستعمله فيما هو أعم من السخرية. فإن السخرية لم يستعملها القرآن إلا مع الأشخاص.
قال تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38].
وقال: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
وقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].
وقال: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11].
وقال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البقرة: 212].
أما الاستهزاء فهو عام يكون من الأشخاص وغيرهم.
قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58].
وقال: {أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65].
وقال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10]
وقال: {إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء: 140]
وقال: {وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف: 56].
وقال: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الفرقان: 41].
لقد ذكر في آية الأنبياء هذه الاستهزاء والسخرية فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} ثم قال: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ}
والذي يبدو أن معنى الآية أن الكفار استهزأوا بهم وبما جاؤوا به وسخروا منهم ومن عملهم، فجمع بين الاستهزاء والسخرية فحاق بالذين سخروا من الرسل ما كانوا يستهزئون به ومما كانوا يذكرونهم به من الآيات والعذاب وما جاءت به رسلهم.
وهو عدة للرسول وإنذار للمستهزئين أن يصيبهم مثل ما أصاب الأولين. جاء في (تفسير أبي السعود): "تسلية لرسول الله عن استهزائهم به عليه السلام في ضمن الاستعجال وعدة ضمنية بأنه يصيبهم مثل ما أصاب المستهزئين بالرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام" (2).
وجاء في (روح المعاني): "وقيل: إن المراد من الذي كانوا يستهزئون هو العذاب الذي كان الرسل يخوفونهم إياه" (3).
وقدم الجار والمجرور (بالذين سخروا) على فاعل (حاق) وهو {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} لأن المعنى يقتضي - ذاك، فلا يصح أن يقال: (لقد استهزئ برسل من قبلك فحاق ما كانوا به يستهزئون بالذين سخروا منهم) أو هو ضعيف، لأن الضمير في (كانوا) عند ذاك لا يعود على مذكور متقدم؛ لأنه لم يتقدم ذكر للمستهزئين، فإن الفعل مبني للمجهول، بخلاف قوله: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، فإن الضمير في (كانوا) يعود على المتقدم وهو (الذين سخروا منهم).
وجاء في (تفسير أبي السعود): "وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى: (ما كانوا به) للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم" (4).
وبنى الفعل (استهزئ) للمجهول لأنه لا يتعلق غرض بذكر الفاعل، فإن العقوبة تتعلق بالاستهزاء أيا كان فاعله. إذ لو ذكر الفاعل لربما أفهم أن العقوبة إنما حصلت لأن الفاعل هم هؤلاء المذكورون، ولو كان غيرهم لم تكن العقوبة كذلك أو أنهم لم يعاقبوا.
جاء في (نظم الدرر): "ولما كان المخوف نفس الاستهزاء لا كونه من معين بني للمفعول قوله: {اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ} أي كثيرين" (5).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 102 إلى ص 105.
(1) الفروق اللغوية 268.
(2) تفسير أبي السعود 3/703.
(3) روح المعاني 7/102.
(4) تفسير أبي السعود 3/703 – 704.
(5) نظم الدرر 12/423.