عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿٣٩﴾    [الأنبياء   آية:٣٩]
  • ﴿بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ﴿٤٠﴾    [الأنبياء   آية:٤٠]
{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) } جواب (لو) محذوف للتهويل والتعظيم ولتذهب النفس كل مذهب (1)، ولأن الكلمات لا تفي ببيان كيف تكون حالهم هناك. و(حين) مفعول (يعلم) أي لو يعلمون ذلك الوقت، ولا يصح أن يكون ظرفًا، فإنه لا يصح أن يكون المعنى (لو يعلمون في ذلك الوقت) فإنهم في ذلك الوقت يكونون قد علموه وأذاقوه. وقال: (لو يعلم) ولم يقل: (لو علم) لأن عدم العلم مستمر. جاء في (روح المعاني): "وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم (2)". وذكر الاسم الموصول وهو (الذين كفروا) ولم يذكر ضميرهم كما كان في الآية السابقة وهو قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ليبين علة استحقاق العذاب وهو الكفر وليدل على أن الذين استعجلوا هم الكفار. جاء في (روح المعاني): "ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علة استعجالهم" (3). وقوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي لا من آلهتهم التي كانوا يعظمونها ولا من غيرهم بل يتركون للعذاب. وقدم الوجوه على النار في قوله: {لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ} وذلك لأنها أهم، فإنهم هم المعذبون والكلام عليهم والوجوه وجوههم، فإنه ليس المهم كف النار ولكن المهم أن يكون الكف عن وجوههم هم. قدم الوجوه على الظهور؛ لأن الوجه أكرم والعذاب عليها أشد، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24]. جاء في (الكشاف): "جواب (لو) محذوف، و(حين) مفعول به لـ (يعلم)، أي لو يعلمون الوقت الذي يستعلمون عنه بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم. ويجوز أن يكون (يعلم) متروكًا بلا تعدية، بمعنى: لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. و(حين) منصوب بمضمر، أي حين لا يكفون عن وجوههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل (4). قد تقول: لقد قال في هذه الآية إنهم لا يكفون النار عن وجوههم ولا عن ظهورهم، فذكر الوجوه والظهور. وقال في العنكبوت: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}. فذكر أنهم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فما اللمسة البيانية في ذكر ما ذكر في كل موضع؟ فنقول: إنه قال في الأنبياء: {وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ} فقال: { وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} والرؤية إنما تكون إذا استقبلوا المرئي بوجوههم فإن الرؤية إنما تكون بالعين، والعين إنما هي في الوجه. وقوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ} إنما تكون عند استقبالهم له بأوجههم أو عند إدباره عنهم. والإدبار إنما هو تولية الظهر فقال: {لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ}، وذلك يشمل الإقبال والإدبار. في حين قال في العنكبوت: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)} فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، والإحاطة عامة تشمل الأمام والخلف والجوانب. ثم ذكر أن العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أي يغطيهم، والغشاء: الغطاء، فلم يترك جهة من الجهات إلا شملها العذاب. فالعذاب في العنكبوت دخل فيه ما ذكر في الأنبياء وزيادة. فإنه لما قال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} دخل في ذلك والإمام والجوانب – كما ذكرنا – ثم ذكر أنه يغطي الفوق والأسفل فكانت الإحاطة بالعذاب شاملة، وهي أشمل وأعم مما ذكر في الأنبياء. وهذا مناسب لاستعجالهم بالعذاب ووصفهم بالكفر على جهة الثبوت، فقد ذكر استعجالهم بالعذاب مرتين فقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} ثم قال: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} ولم يذكر في الأنبياء الاستعجال بالعذاب، وإنما قال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ولم يذكر أنه وعد بالعذاب، وإنما قال: {سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} ثم ذكر وصفهم بالكفر على جهة الثبوت فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} فذكر وصفهم بالكفر على جهة الثبوت فجاء بالصيغة الاسمية في قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}. في حين ذكر اتصافهم به في الأنبياء بالصيغة الفعلية فقال: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، والفعل يدل على الحدوث كما هو معلوم، فكان العذاب في العنكبوت أعم من عدة جهات. فقد ذكر الوجوه والظهور في الأنبياء. في حين ذكر الإحاطة في العنكبوت، والإحاطة أعم من الوجوه والظهور، فإن الوجه جزء من الأمام، والظهر جزء من الخلف، في حين أن الإحاطة تشمل الأمام كله، والخلف كله، وتشمل الجانبين. وذكر الفوق فقال: (من فوقهم) ولم يقل: (فوقهم) ليدل على أن العذاب يغشاهم أي يغطيهم من فوقهم من دون فاصل، وكذلك قوله: (من تحت أرجلهم). ثم قال: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} والذوق يكون بالملامسة. فكان العذاب في العنكبوت أعم وأشد. وكل مناسب لموضعه الذي ورد فيه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 97 إلى ص 101. (1) انظر التحرير والتنوير 17/70، البحر المحيط 6/313. (2) روح المعاني 17/49. (3) روح المعاني 17/49. (4) الكشاف 2/329.