عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴿٣١﴾    [الأنبياء   آية:٣١]
{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)} الرواسي من الجبال: الثوابت الرواسخ (1). ومن لطائف التعبير القرآني أنه لا يعبر بالرواسي في أحداث القيامة، بل يعبر عنها بالجبال وذلك نحو قوله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات: 10]، وقوله: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحافة: 14]. وذلك لأنها لم تعد رواسي. وإنما خص التعبير بـ (الرواسي) في الحياة الدنيا، وذلك نحو قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا} [النحل: 15]. وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10]. وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27]. أما التعبير بالجبال فهو عام، وذلك نحو قوله تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ} [الحجر: 82]. وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81]. {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أي لئلا تميد وتضطرب (2). ومن لطائف التعبير في القرآن أن نفي الميد يجعله مع لفظ (الرواسي) دون غيرها فلم يجعله مع لفظ الجبال، ذلك أن معنى الرواسي – كما ذكرنا – هو الثوابت الرواسخ، فهي تثبت الأرض لئلا تميد. {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} الفج: الطريق الواسع بين جبلين، وقيل: هو الطريق الواسع في الجبل (3)، وقيل: هو الطريق الواضح الواسع (4). والسبيل: الطريق الذي فيه سهولة (5). وجمع بين الفجاج والسبل لإفادة معنى السعة والسهولة واليسر وذلك من تمام النعمة. جاء في (روح المعاني): "(فجاجًا) جمع فج، قال الراغب: هو شقة يكتنفها جبلان. وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو فج. وقال بعضهم: هو مطلق الواسع سواء كان طريقًا بين جبلين أم لا... وقوله سبحانه: (سبلاً) بدل منه. فيدل ضمنًا على أنه تعالى خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد؛ لأن البدل كالتكرار وعلى نية تكرار العامل، والمبدل منه ليس في حكم السقوط مطلقًا... [وقيل]: إن (سبلاً) عطف بيان وهو سائغ في النكرات حيث قال: هو تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة، فقد يكون الفج غير نافذ" (6). قد تقول: لقد قدم الفجاج على السبل ههنا، وقدم السبل على الفجاج في سورة نوح فقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)} فنقول: لما ذكر الرواسي في آية الأنبياء ناسب تقديم الفجاج على السبل؛ لأن الفج هو الطريق في الجبل كما ذكرنا. ولما قال (بساطًا) في سورة نوح قدم السبل وهي الطرق الميسرة السهلة (7). {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي يهتدون في سيرهم أو يهتدون إلى الإيمان بالله، فإن هذه من الآيات التي تهدي إلى الإيمان. وكلا الأمرين مطلوب، فإن الجبال من وسائل الهداية في السير، قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 15 - 16]. وهي من الآيات الدالة على توحيده وقدرته سبحانه. قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)} [الغاشية: 17 - 19]. وقال: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]. وقال: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61]. جاء في (التحرير والتنوير): "وجملة {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} مستأنفة إنشاء رجاء اهتداء المشركين إلى وحدانية الله، فإن هذه الدلائل مشاهدة لهم واضحة الدلالة. ويجوز أن يراد بالاهتداء الاهتداء في السير، أي جعلنا سبلاً واضحة غير محجوبة بالضيق إرادة اهتدائهم في سيرهم فتكون هذه منة أخرى" (8). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 78 إلى ص 81. (1) انظر لسان العرب (رسا). (2) انظر لسان العرب (فجج). (3) انظر الكشاف 2/327. (4) المصباح المنير (الفج)، وانظر الكشاف 2/327. (5) انظر مفردات الراغب (سبل). (6) روح المعاني 17/38. (7) انظر التعبير القرآني 76 – 77. (8) التحرير والتنوير 17/57.