عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ﴿٣٠﴾ ﴾ [الأنبياء آية:٣٠]
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)}
أي ألم يتفكروا أولم يعلموا أن السماوات والأرض كانتا مرتوقتين أي لاصقة إحداهما بالأخرى ففصلنا الأرض عن السماوات؟
وقال: (رتقًا) دون (مرتوقتين) لأن (رتقًا) مصدر، والمصدر يخبر به عن المفرد وغيره كما يقال: رجل عدل ورجال عدل. ورجل صوم وامرأة صوم ورجال صوم.
وأخبر عنهما للمبالغة.
والرؤية قلبية، أي: ألم يعلموا (1)؟
قد تقول: لعلهم لم يكونوا يعلمون ذلك.
فنقول: إن ذلك يقال لمن يعلم أو لإعلام من لم يكن يعلم. كما تقول لصاحبك: (ألم تعلم أن فلانًا حصل على جائزة؟) وهو لا يعلم ذاك وإنما أردت إخباره، وهذا جار كثير في اللغة.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18].
وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41].
وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48].
وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258].
وهو إنما يخبره بذلك.
ونحو هذا كثير في القرآن الكريم.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}
أي "صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه" (2)، فالماء هو سبب الحياة.
فبدأ بذكر الحالة الأولى لوجود الكون وهي أن السماوات والأرض كانتا ملتحمتين لاصقة إحداهما بالأخرى ففصلهما.
ثم ذكر أصل الحياة وما يسبق الحياة، ثم جعل الأشياء حية بسبب الماء.
فذكر حالتين متناظرتين:
ما يسبق هذا الكون المشاهد.
وما يسبق وجود الأحياء.
وهو تناظر جميل.
ولما ذكر في أول الآية الذين كفروا فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا}ختمها بدعوتهم إلى الإيمان فقال: {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}.
وجاء بالفاء الدالة على السبب في قوله: {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } أي ألا يكون ذلك سببا لإيمانهم؟!
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 76 إلى ص 78.
(1) أنظر الكشاف 2/326 – 327، روح المعاني 17/34.
(2) الكشاف 2/327.