عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴿٢٥﴾    [الأنبياء   آية:٢٥]
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) } هذه الآية وقعت في سياق ما قبلها من آية التوحيد وإبطال الشرك من مثل قوله سبحانه:{أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}. وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} ثم قال: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} فذكر في هذه الآية، أعني { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ........} ماذا أوحى إليه في ذكر من قبله. فذكر أن كل رسول أرسله ربنا سبحانه أوحى إليه {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }. فبين أنه أوحى إليه بالتوحيد والأمر بعبادته سبحانه. وقال: {مِنْ رَسُولٍ} فجاء بـ (من) الدالة على الاستغراق، فدل ذلك على أن كل رسول أوحي إليه هذا الأمر بلا استثناء، فلم يستثن رسولاً من ذلك. وقال: {إِلَّا نُوحِي} بالمضارع، ولم يقل: (أوحينا) لحكاية الحال وذلك يدل على الاهتمام بما أوحى إليه. جاء في (تفسير أبي السعود): "وأياً ما كان فصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورة الوحي" (1). بل إن التعبير في الآية كله دل على الاهتمام والتوكيد. فالحصر في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} يفيد التوكيد، وهو أكد من نحو قولنا: (وأوحينا إلى الرسل قبلك أنه لا إله إلا أنا). والنفي بـ (ما) في (ما أرسلنا) يفيد التوكيد؛ لأن (ما) تكون جوابًا للقسم، وهي أكد من (لم). وقال: (من قبلك) فجاء بـ (من)، وهو أكد مما لو قال: (وما أرسلنا قبلك)، فـ (من) تفيد الابتداء فاستغرقت كل من كان قبله. وقد مر شيء من ذلك فيما ذكرنا. وقال: (من رسول) فأدخل (من) الاستغراقية المؤكدة على المجرور فاستغرق ذلك جميع الرسل مع التوكيد كما ذكرنا قبل قليل. وقال: (نوحي) بالمضارع لحكاية الحال وذلك يدل على الاهتمام كما ذكرنا. وقال: (أرسلنا) و( نوحي) بالإسناد إلى ضمير التعظيم. ووردت قراءتان متواترتان في (نوحي) هما (نوحي) و(يوحى) بالبناء للمجهول (2) فجمعت معنيين وصيغتين. وقال: (أنه) بإدخال (أن) على ضمير الشأن الدال على التعظيم والاهتمام، ولم يقل: (أن لا إله إلا أنا) بحذف ضمير الشأن. ومن المعلوم أن الذكر أكد من الحذف. إنه لم يقل كما قال في غير هذا الموطن (أن لا إله إلا هو) وذلك نحو قوله تعالى في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14).} فقال: {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ولم يقل: (وأنه) كما قال في آية الأنبياء. وكما قال في سورة الأنبياء في موضع آخر: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}. وذلك أن آية هود في سياق الدلالة على أن القرآن ليس مفترى وإنما هو من عند الله. في حين أن السياق في آية الأنبياء إنما هو في سياق التوحيد ونفي الشرك. فلما كان السياق في التوحيد أكد وعظم بذكر ضمير الشأن. كما أن آية الأنبياء الأخرى ليست في سياق التوحيد، وإنما هي سياق التسبيح والدعاء والإقرار بما فعل من خلاف الأولى فقال: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} ولم يقل (أنه). وكل تعبير مناسب في سياقه الذي ورد فيه. وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} كله مؤكد. وقوله: (فاعبدون) أمر بعبادة الله وهي الغاية التي خلق لها الثقلان كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. {فَاعْبُدُونِ}: إن قوله: (فاعبدون) أمر للجمع مع أن الموحى إليه واحد، فلم يقل: (إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدني) ذلك أن الأمر له ولمن أرسل إليهم على الأظهر. جاء في (البحر المحيط) في قوله: (فاعبدون): "ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته" (3). قد تقول: لقد قال في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)}. فأمر في هذه الآية بالتقوى فقال: {فَاتَّقُونِ}. وأمر في آية الأنبياء بالعبادة فقال: {فَاعْبُدُونِ}. فما سر الاختلاف في ذلك؟ فنقول: إنه قال في آية النحل (أن أنذروا)، والإنذار يقتضي اتقاء ما أنذروا به. فالنذير يخوفهم من أمر عليهم أن يتقوه، فناسب ذلك قوله: (فاتقون). وأما آية الأنبياء فإنها في توحيد الله وعبادته، وهي في سياق إفراده بالعبادة والتوحيد وذلك نحو قوله سبحانه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}. وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ}، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً}. وقال في موضع آخر من السورة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92}، وتكرر ذكر العبادة في السورة. وناسبت آية النحل – إضافة إلى ما ورد فيها من ذكر الإنذار – ختام ما ورد في السورة وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}. كما تكرر ذكر الاتقاء في أكثر من موضع في السورة وذلك نحو قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}، وقوله: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)} وغيرها. فناسب كل تعبير ما ورد فيه من أكثر من جهة. وقد تقول: لقد قال في سورة الإسراء: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}. فقال: (قبلك) ولم يقل: (من قبلك) كما قال في آية الأنبياء فما سبب ذلك؟ والجواب أنه قال قبل آية الإسراء: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)}، ثم قال: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}. والعقوبة التي ذكرها في قوله: {لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} إنما حصلت قبل الرسول بزمن طويل، فإنها لم تحصل لقوم عيسى، وإنما حصلت لفرعون ومن معه حين اتبع موسى بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم، وحصلت للأقوام القديمة كعاد وثمود وغيرهم من الأقوام في الأزمان السحيقة. إن هذا الأمر لم يحصل ابتداء من زمن الرسالة قبل بعثة الرسول، وإنما حصل قبل ذلك بما لا يعلمه إلا الله، فلم يقل: (من قبلك) بـ (من) التي تفيد ابتداء الغاية، وإنما قال: (قبلك) وهو ما يدل على عموم الزمن قبله فقد يكون ذلك قريبًا أو بعيدًا. فناسب كل تعبير سياقه الذي ورد فيه والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 64 إلى ص 68. (1) تفسير أبي السعود 3/696. (2) انظر البحر المحيط 2/306 وروح المعاني 17/32. (3) البحر المحيط 6/306 وانظر روح المعاني 17/32.