عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴿٢٢﴾    [الأنبياء   آية:٢٢]
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)} أي لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله لفسدتا. و(إلا) هنا وصفية بمعنى غير. قد تقول: لقد قال في هذه الآية: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} فذكر (رب العرش). وقـال فـي مـوطـن آخـر: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام: ۱۰۰]. وفي موضع آخر يقول: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91، الصافات: ١٥٩]. وفـي مـوضـع آخـر يـقـول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: ۱۸۰]. وقال في موضع آخر: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف: ۸۲]. فما السر في ذلك؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب للموضع الذي ورد فيه. أما قوله في آية الأنبياء: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ} فإنه ذكر رب العرش لما تقدم من ذكر الذين عنده أنهم يسبحون الليل والنهار وهم الملائكة فناسب ذكر العرش. وأما قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} فإنه يقول ذلك إذا ذكر أمرًا واحدًا كأن يذكر قول المشركين باتخاذ الولد، فإذا ذكر معه الشرك أضاف إلى ذلك قوله (تعالى)، فيضيف تنزيها آخر إلى ما ذكر. فالشيء الواحد يذكر له تنزيها، فإذا زاد عليه ذكر تنزيها آخر. هذا إضافة إلى ذكر صفات أخرى تناسب المقام. وإيضاح ذلك: أنه سبحانه قال في سورة الصافات: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159)}. فقال: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} لما ذكر شيئًا واحدًا وهو اتخاذ الولد. وقال في الأنعام: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)}. فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى} لما ذكر أمرين: الشرك وذلك قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ}. واتخاذ الولد وذلك قوله: {وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ... أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ}. وقال في المؤمنون: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)} فقال:{ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}. وقال بعدها: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وذلك أنه ذكر أمرين: اتخاذ الولد وهو قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}. ونفي الشرك وهو قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}. وأما قوله في الصافات: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} فهو مناسب للسياق الذي وردت فيه الآية وذلك قوله: { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181)}. فالسياق – كما هو ظاهر – في نصر المؤمنين وإنزال العذاب بالكافرين وذلك من مقتضيات العزة. فإن العزيز هو الذي ينصر ويغلب فناسب ذلك أن يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}. وقال: (سبحان ربك) بإضافة الرب إليه؛ لأنه المتفضل عليه وهاديه وهو الذي أرسله برسالته وقد وعده بالنصر وذلك قوله: { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175)...} فناسب أن يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} وأما قوله في الزخرف: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} فهو مناسب لما ورد في سياقه. فقد قال في الزخرف: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)} فذكر اتخاذ الولد وهو قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}. ثم قال: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} فذكر أنه الإله فيهما. ثم قال: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا }… فذكر أن له ملكهما. وقدم الجار والمجرور (له) للحصر، فإنه له وحده ملك السماوات والأرض حصرًا لا يشاركه في ذلك أحد. وقال في الآية: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ }فذكر أنه ربهما. فجمع السياق الدلالة على الربوبية والألوهية والملك فناسب أن يذكر أنه رب العرش فإن العرش للملك. إضافة إلى ما ذكر بعد ذلك من صفات الكمال. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 58 إلى ص 61.