عرض وقفة أسرار بلاغية
{أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)}
أنكر عليهم في هذه الآية اتخاذ آلهة من الأرض، ثم أنكر عليهم اتخاذ آلهة من دون الله على العموم في آية بعدها فقال: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً (24)}.
فأنكر اتخاذ الآلهة على العموم من الأرض أو من غيرها.
فهو إنكار على متخذي الآلهة من دون الله سواء اتخذوها من الأرض أم من غيرها.
وذكر الآلهة في الأرض لأن كفار قريش وهم الذين أنزل عليهم القرآن كانوا يعبدون الأصنام وهي حجارة.
وقد تقول: ولماذا لم يقل: (أم اتخذوا من دون الله آلهة من الأرض) فيقول: (من دون الله) كما قال في آيات أخرى من نحو قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} [مريم: ۸۱].
وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3] وكما قال في آية بعدها: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً}؟
فنقول: لما قال: {آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ} دل ذلك على أنها من دون الله.
ثم إن قوله: {آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ} مناسب لما ورد في السورة من إهلاك القرى الظالمة على الأرض وأهلها من نحو قوله تعالى: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}، وقوله: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}، وقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَة} فماذا فعلت الآلهة وإله السماء يدمر قرى الأرض وساكنيها من الظالمين الذين يعبدون هذه الآلهة؟!
ومناسب لما ورد في السورة من اتخاذ قوم إبراهيم آلهة من الأرض فحطمها إبراهيم وجعلها جذاذًا، فماذا فعلت هذه الآلهة المضحكة؟!
ومناسب لما ورد في السورة من قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}.
فماذا تفعل هذه الآلهة في الأرض وإله السماء ينقص ما هم عليه حتى أتى عليهم كلهم وما هم عليه؟!
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ذكر في الآية شيئًا واحدًا لهذه الآلهة وهو قوله: {هُمْ يُنْشِرُونَ}، فلما كان الأمر جزئيًا ذكر جزءًا من الآلهة وهو الآلهة من الأرض.
في حين قال آية بعدها: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}.
فلم يقل: (من الأرض) بل ذكر اتخاذ الآلهة على العموم، وذلك أن ما ذكره في الآية الثانية أمر عام غير مقيد بشيء.
فناسب العموم العموم، وناسب الخصوص الخصوص.
وقوله: {هُمْ يُنْشِرُونَ }أي يبعثون الموتى من قبورهم.
وذكر الإنشار مناسب لقوله في أول السورة: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، ومناسب لقوله سبحانه في السورة: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} وقوله: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)}، ولما ذكره في آخر السورة من الرجوع إلى الله والحساب والجزاء.
وهو تهكم بهم فإنهم لا يؤمنون بالحشر مع أنهم يؤمنون بالله كما ذكر الله عنهم في أكثر من موضع من نحو قوله: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} [الجاثية: 32]، وآيات أخرى.
جاء في الكشاف: "هذه أم المنقطعة الكائنة بمعنى: بل والهمزة، قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها...
فإن قلت: كيف أنكر عليهم اتخاذ آلهة تنشر وما كانوا يدّعون ذلك لآلهتهم؟ وكيف وهو أبعد شيء عن هذه الدعوى، وذلك أنهم كانوا – مع إقرارهم لله عز وجل بأنه خالق السماوات والأرض {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]، وبأنه القادر على المقدورات كلها وعلى النشأة الأولى – منكرين البعث، ويقولون: من يحيي العظام وهي رميم؟...
قلت: الأمر كما ذكرت، ولكنهم بادعائهم لها الإلهية يلزمهم أن يدعوا لها الإنشار؛ لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور، والإنشار من جملة المقدورات.
وفيه باب من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل... ومعنى نسبتها إلى الأرض: الإيذان بأنها الأصنام التي تعبد في الأرض" (1).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 55 إلى ص 57.
(1) الكشاف 2/324 وانظر تفسير أبي السعود 3/693.