عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ ﴿١٩﴾    [الأنبياء   آية:١٩]
  • ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ﴿٢٠﴾    [الأنبياء   آية:٢٠]
{وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} ذكر قبل هذه الآية أنه خلق السماء والأرض وما بينهما فذلك يعني أنها ملكه، وذلك قوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ}. وذكر في هذه الآية أن له من فيهما وذلك قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}. فالسماوات والأرض وما بينهما ومن فيهما ملكه. وذكر في أوائل السورة أنه يعلم القول فيهما ما أسروه وما جهروا به فقال: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)}. وذكر أن من عنده من الملائكة يعبدونه لا يكلون ولا يملون، وأنهم يسبحون الليل والنهار لا ينقطعون عن التسبيح. جاء في (الكشاف): "أي تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا يتخلله فترة بفراغ أو شغل آخر" (1). قد تقول: لقد قال هنا: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20}. وقال في سورة فصلت: {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)}. وقال في سورة الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206}. فقال في الأنبياء: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}. وقال في فصلت: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ}. وقال في الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ}. فقال في الأنبياء: {وَمَنْ عِنْدَهُ}. بذكر (من). وقال في فصلت والأعراف (الذين عند ربك) بذكر (الذين). وفي تعبير آخر: قال في الأنبياء: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}. وقال في فصلت: {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}. وقال في الأعراف: {وَيُسَبِّحُونَهُ}. فأطلق التسبيح في الأنبياء، وقيده بحرف الجر فصلت، وقيده بالمفعول به في الأعراف. فما سر هذا الاختلاف؟ والجواب أن كل تعبير مناسب لسياقه وما أريد له من معان. وذلك أن آية الأنبياء أعم من الموضعين الآخرين من جهات عدة منها: 1- أنه قال في آية الأنبياء: {وَمَنْ عِنْدَهُ} وقال في فصلت: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وقال في الأعراف: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} و(من) أعم من (الذين) لأنه اسم موصول مشترك، و(الذين) مختـص. فـ (مـن) يطلـق علـى الـواحـد والمثنى والجمع، المـذكـر والمؤنث، بخلاف (الذين) فإنه خاص بجماعة الذكور. هذا إضافة إلى أنه مناسب لما تقدم في الآية من قوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، فناسب عموم من في السماوات والأرض عموم من عنده، وناسب ذكر (من) في الموضعين. أما في فصلت فقد خاطب الناس أو جماعة منهم بقوله: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ولا شك أن قوله: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أعم من هؤلاء. فجاء بالاسم الموصول المختص مناسبة للخصوص. وكذلك ما ورد في الأعراف، فإن قبل الآية قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. ولا شك أن ما ورد في الأنبياء أعم بكثير من المخاطبين في الأعراف. فجاء بالاسم الموصول المختص في الأعراف مناسبة للخصوص. وهذا من لطيف المناسبات. 2- وقال في الأنبياء: {يُسَبِّحُونَ} وقال في فصلت: {يُسَبِّحُونَ لَهُ} وقال في الأعراف: {وَيُسَبِّحُونَهُ} و(يسبحون) أعم من (يسبحون له) و(يسبحونه)؛ لأنه غير مقيد، فهو يشملهما ويشمل غيرهما من أنواع التسبيح من نحو: (سبح اسمه) و(سبح باسمه) و(سبح بحمده) وغير ذلك من أنواع التسبيح. 3- قال في الأنبياء: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ } أي لا يكلون ولا يتعبون، فدل ذلك على دوام العبادة وعدم انقطاعها. ولم يقل مثل ذلك في الموضعين الآخرين. ولا شك أن ما في آية الأنبياء أعم وأدوم. 4- قال في الأنبياء: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي على الدوام لا ينقطعون. وقال في فصلت: {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي في هذين الوقتين. فما في الأنبياء أدوم. ولم يذكر في الأعراف وقتًا للتسبيح ولا للسجود وإنما ذكر الحدث فقال: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}. وهذا لا يدل على الدوام والاستمرار. فإنك إذا قلت: (أحمد يصلي) أو يقرأ القرآن فإن ذلك لا يدل على الاستمرار فيهما وأنه لا يقطع ذلك في وقت من الأوقات. أما في الأنبياء فتنصيص على الدوام وعدم الانقطاع. فهو أعم. 5- قال في الأنبياء: {لَا يَفْتُرُونَ} فلا تحصل فترة منهم. أي لا يسكنون. ولم يقل مثل ذلك في الموضعين الآخرين، فدل على دوام التسبيح. وكل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه. فإن التخصيص في فصلت مناسب لما تقدمه وهو قوله: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37} فهو طلب أمر مخصص وهو السجود لله. وكذلك التخصيص في الأعراف فإنه مناسب لما تقدمه وهو قوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)}. فهو طلب أمر مخصص وهو الاستماع للقرآن عند قراءته، وطلب الذكر من الرسول على الخصوص. ولا شك أن هذا أخص بكثير من عبادة الملائكة المطلقة المستمرة وتسبيحهم الذي لا يفتر ولا ينقطع. وأما آية الأنبياء فلم يتقدمها شيء من ذلك، وإنما تقدمها قوله سبحانه: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ (18} والحق عام والباطل عام فناسب العموم في آية الأنبياء ما تقدمها. وناسب كل تعبير السياق الذي ورد فيه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 50 إلى ص 55. (1) الكشاف 2/234.